ادبــاء وكُتــاب


16 فبراير, 2019 05:03:39 م

كُتب بواسطة : جلال الفضلي - ارشيف الكاتب



العقل نعمة كرم الله بها بني آدم، فبه يعرفون ربهم، وبه يعلمون، ويخططون. ولولاه بعد الله سبحانه لصارت البشرية بهيمية، لا تفكر إلا في شهواتها، وتجري خلف عاطفتها.

ولما كان العقل عائقا وسدا منيعا من تحقيق بغية ذوي الأطماع والخطط الإبليسية، ورأوا أن الاستعمار في هذا الزمن مستحيل، وأن النفوس لن ترضى بتسليم أرضها ولا عرضها، ولا خيرها، ولو حل بها، ما حل؛ سارعوا
للاستحمارية، وتغييب العقول العبقرية، فخاطبوها بلغة الشهوة، والعزف بالنغمة التي تخدرها وتطربها وتسكرها، ليحققوا ما يتمنونه ويسعون له.
الاستحمارية وما أدراك ما الاستحمارية: السين والتاء تدل على الطلب أو التصيير، فيطلبون منك أن تكون حمارا، أو يصيرونك حمارا، غادر العين من كلمة الاستعمار، واستبدل بحاء الاستحمار، ليكون الغزو على العقل لا الأرض، وهذه مشكلة خطيرة، إذ سلب العقل هو سلب الأرض وتوابعها، بل ربما صرنا نتكلم بلغة المستعمر، وندافع عنه، فالعقل الذي يردعنا ويصدنا ويغوص بنظره الثاقب في الحال والمآل قد غيب، وصرنا حميرا تعشق الشهوة، ولا تفهم إلا لغتها، تخدم من يدفع لها، ويمنيها بما ترغب، لا تبالي بكد وتعب، وخطر وضرر، ومآل وحال، تتحمل كل ضرب وهوان، وذل وطغيان، المهم أن تبقى النغمة التي تحب سماعها ووعدت بتحقيقها واستحمرت بها تُعزف وتسمع، فلا خطب قس بن سعادة تقنعها وتردها إلى صوابها، ولو وعظت ألف موعظة، ولا خطر ولا ضرر يفجعها ويرهبها، فالاستحمارية سكر شربته، فلن تتنازل عن ذلك ولو لقيت حتف أنفها. والأطم من ذلك أن يرضى الإنسان بالاستحمارية لأجل شهوة مال أخذت عقله وسلبته، فيتعلق بسيد المال -غاصب بلده- كتعلق الحرباء بالعود، ويصير أتبع من ظله، وأطوع من نعله، ويحني له ظهره، فيركب عليه كل ضرر وبلاء له ولوطنه، ولايهمه كل ذلك فالعلف الأخضر ينتظره ولو حصل معه الضرب بالعصى، والتعب والظمأ، فمتى كان الحمار يحمل حقدا وغضبا، فهو مستعد لعمل أي مهمة ترضي سيده، بل يخرب كل ما لا يعجب سيده ومولاه، طاعة وكرامة، ويسعى لإرضائه بكل وسيلة وطريقة، وينهق في القوم أن هلموا إلى الخير والعطاء، وبيعوا أرضكم، واستحمروا أنفسكم، تجدوا ما يسركم، فالعلف الأخضر هنا، ولم النفور منا؟ هل ستنفعكم الآدمية التي تتسمكون بها؟ والعقل الذي ضيع رزقكم؟ ( وإذا قيل لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون).

للأعداء ألف حيلة، ووسيلة، فقلبك يكرههم ولسانك يلعنهم لكنك تصفق لهم وتسير في ركبهم بدون شعور، وترى ما أنت فيه هو عين الصواب، فتتصرف كتصرف المسحور، ليس طلاسم هاروت وماروت من أثر فيك، ولكن استحمرت فكنت العبد المطيع.

يزمرون على آذاننا بنغمات الشهوة التي تعجبنا ونرقص لها بطرب وسرور متناسين شخصيتنا ومكانتنا وقوتنا وتاريخنا بل وخيرات بلادنا، ونعيش في جو الوهم والمرح، ويظل صاحب المزمار بأنغامه محققا ما رسمه، وجانيا ثمرة ما بذره، وتبقى تلك الأجساد كالأفعى الضخمة المخيفة والمرعبة ترقص أمام المزمر الذي لا يطمع من كل هذا إلا في النقود والتسلي، وبعد الرقصة الطويلة وجمع الأموال ترد تلك الأفعى إلى صندوقها الصغير أسيرة مكسورة، بعد ما كانت قوية مهابة متحررة يهابها العظماء والشجعان، ويتوقى الحذر منها كل إنس و حيوان.

استحمرت الحوثة! فضرب المزمّر على آذانهم نغمة الملك والتمكين، ليحققوا له خططا مرسومة، ومدروسة. واستحمرت الساسة والقيادة اليمنية بصنعاء فعزف العازف وتر التخدير بمقام "هدف الحوثة هم الإخوان المسلمون لا غير"، فما استفاق القوم من غفلتهم إلا واليمن تحترق، وانقلبت الخضراء غبراء، وصار الهواء دخان المدافع والصواريخ، وشردت الأسر، وسفكت الدماء، فلبس الساسة حداد الندم، وتعثرت القدم، ورأوا أن الخرق قد اتسع، فصاروا يسعون للحلول الضعيفة، والتمسك بخيوط العنكبوت، وعلموا أنهم حيل بينهم وبين مايشتهون، فتسابقوا على الهروب، ونعقت الغربان البشرية بأصواتها المرتفعة -بعد أن رأت أن خطتها في سيرها المحكم- قائلة:
*ومن جعل الغراب له دليلا يمر به على جيف الكلاب* .

وفي جنوب اليمن عزفت الإمارات بنغمات الانفصال، ففصلت العقول عن الأجساد، وسلبت العقول والبلاد، ورفعت الأعلام على مدرعاتها، وملأت السجون بطلاسم الارهاب، وصاح القوم وجدنا من سيحقق لنا الانفصال، ويثبت لنا الأمن، وصرنا كالحمار الذي وضع له صاحبه جزرة أمام رأسه ليسرع به، فما استفاد الحمار إلا التعب والهلاك، وفقد الرفقة، والجماعة، وعدن خير شاهد.

الغفلات والسقطات لا يخلو منها العقلاء، ولكل جواد كبوة، بل كبوات، والاستحمارية سواء شربنا من سكرها قليلا أو كثيرا، ليس عيبا، فكل بني آدم خطاء، والرجوع للحق فضيلة، والتوبة تجُبُّ ما قبلها، لكن المصيبة البقاء على الاستحمارية، واللهث خلف أربابها، وجعل العقل وترا يضرب به العوّاد بما يسليها ويرغبها.

ليتفقد كل عقله، ولينظر كل إلى كل حرف وكلمة وعمل وفكرة، هل كانت لمرضاة رب الأرض والسماء؟ وهل يعود نفعها على الوطن؟ أم هي وبال وخزي وعار وندم وشنار؟ هل المصلحة هي من دفعتك لذاك؟ أم الشهوة الخفية أو الظاهرة كانت هي المسير والمتحكم بزمام أمرك؟

أيها السادة: بلادكم هي التي تدمر، وشعبكم هو الذي يموت ويشرد، وخير بلادكم ملئت به كروش المفسدين من الخارج والداخل، فاستفيقوا من سكركم، وعودوا لرشدكم، واستحضروا قول النبي صلى الله عليه وسلم ( والحكمة يمانية) وطاولة الحوار هي مسرح العقل، ولن تعدم الحكمة اليمانية حلا إذا فكرت بعقلها لا بعقل غيرها، فحلوا قضيتكم بأنفسكم، وأوقفوا نزيف الدم، وارحموا أنفسكم وأهليكم.