تحقيقات وحوارات

السبت - 22 سبتمبر 2018 - الساعة 10:25 م بتوقيت اليمن ،،،

تحديث نت - القسم السياسي - أنيس الشرفي


يتسم المشهد السياسي اليمني بحالة من الإرباك نتيجة تعدد الديناميات وتشعبها في حلقة متتالية من المتغيرات، التي تتشعب روابطها واتصالاتها في حلقات متعددة تتصل مع بعضها في نقاط وتتفكك في نقاطاً أخرى، إذ تتخذ تفاعلاتها حالة من الشد والجذب بين أطراف ومستويات عدة على كافة الأصعدة المحلية والإقليمية والدولية، تتحدد تحالفاتها حسب حاجة ومصالح أطرافها.

حيث تفرز الصراعات المحلية على الساحة اليمنية طبيعة ونمط تتداخل فيه المصالح والأهداف وتتعارض بين عددٍ من الأطراف على مختلف الصُعد المحلية والإقليمية والدولية في آن واحد، مما زاد من مستويات الإرباك والتشتت، ليصبح من الصعب لأي طرفٍ سياسي التفرد أو الاستئثار بالسلطة والقرار وإقصاء الآخرين أو ترضيتهم بالفتات.

لقد بات لدى كل طرف ما يرتكز عليه من مصادر القوة التي تؤهله ليكون عنصراً فاعلاً ومؤثراً بالإيجاب أو السلب، بما يجعل منه في حال تجاهله مصدر قلقٍ يهدد العملية السياسية والوضع السياسي والأمني للبلد برمته.


جوهر الصراع:

تعد بيئة الصراع في اليمن بالغة التعقيد، بشكلٍ ضاعف من صعوبة فك طلاسمها أو التكهن بمآلاتها المستقبلية، دون الغوص في أعماق تشعباتها على المستوى المحلي، والإلمام بمصالح وأهداف وعلاقات كل طرفٍ منها على المستويين الإقليمي والدولي، للوصول إلى تكوين فكرةٍ مقاربة لواقع دورات الصراع الدموي المتلاحقة، والإسهام في حلحلة تعقيداتها انطلاقاً من المسببات الجوهرية للمشكلة وحقائق التاريخ بدلاً من الانشغال بتفاعلاتها وانعكاساتها اللاحقة؛ فبزوال أسباب المشكلة تزول تفاعلاتها.

وبالنظر إلى حقيقة الصراع الراهن في اليمن نجد بأن ما وصلت إليه أوضاع اليمن شمالا وجنوباً من أزمة سياسية حادة أفضت إلى نشوء عددٍ من النزاعات المسلحة كانت بسبب تداعيات الخطأ السياسي التاريخي المتمثل بما سمي (الوحدة اليمنية) والتي فشلت في مهدها، وتحولت إلى وحدة ضم وإلحاق فرضت بالقوة والدم، بغزو الجنوب واحتلاله عام 1994م.

وهو الأمر الذي أسس لمرحلة صراع طويلة، لم تعد تأثيراتها محصورة اليوم في جنوب وشمال اليمن لوحدهما، بل تجاوز تأثيرها حدود البلد إلى سائر دول المنطقة، وأصبحت تهدد الأمن والسلم الدوليين.


هيمنة واستحواذ الإصلاح:

لقد مرت الأزمة اليمنية الراهنة منذ حرب 2015م بأحداث دراماتيكية، بدءاً بالانقلاب الحوثي على شرعية الرئيس هادي ومروراً بتحرير الجنوب وأجزاء من الشمال، علاوة على تمكن حزب الإصلاح من الاستيلاء على الشرعية وتجييرها لخدمة أهداف التنظيم العالمي لجماعة الإخوان المسلمين وما أعقب ذلك من تغير جذري في تسيير قرارات الرئيس هادي عمدت لإزاحة الجنوبيين والقوى الوسطية واستبدلتهم بشخصيات تحمل أجندات التنظيم.

لقد أدت تلك التغييرات في بنية القرار المؤسسي لدى الشرعية إلى إشعال ثورة الشارع الجنوبي التي ما زالت متقدة ولم تخمد لأن لا شيء من أهدافها تحقق بعد، وهو ما أسفر عن تفويض محافظ عدن السابق عيدروس الزبيدي بتشكيل قيادة سياسية، والذي بدوره أعلن تشكيل قيادة سياسية تحت كيان أسماه المجلس الانتقالي الجنوبي قوام هيئة رئاسته 26 شخصية.

فما كان من الحكومة إلا أن اتجهت لممارسة مزيدٍ من التنكيل بحق الشعب في الجنوب تنفيذاً لأجندات الإصلاح الذي امتلك كامل صلاحيات القرار السياسي والمالي والإعلامي والاقتصادي للشرعية.

وهو الأمر الذي قاد إلى حالة من التصعيد والتصعيد المضاد بين الانتقالي والحكومة لتنتهي بأحداث عدن بين الطرفين في أواخر يناير الماضي بعد تعرض قوات تابعة للحكومة لمسيرة شعبية تطالب بإسقاط الحكومة وتحسين الخدمات والاعتداء عليها من قبل جنود الحماية الرئاسية موقعين عدة ضحايا من المدنيين.

وعلى إثر ذلك قامت قوات المقاومة التابعة للانتقالي للتدخل بهدف حماية المحتجين السلميين، مما قاد إلى اتساع رقعة المواجهات لتعم كافة مديريات عدن والتي انتهت بسيطرة الانتقالي ووصولهم إلى أبواب قصر الرئاسة في معاشيق قبل أن يتدخل التحالف العربي ويطلب من الانتقالي التراجع متعهداً لهم برعاية مفاوضات مع الحكومة لتلبية طلباتهم، بيد أن الحكومة رفضت ذلك بشكل بات وعادت لابتزاز التحالف العربي والتصعيد ضد الانتقالي والشعب الجنوبي بشكلٍ أكثر استفزازاً من ذي قبل.

وفي ظل سعي حزب الإصلاح للعبث بالأمن في الجنوب المحرر، وانهيار سعر العملة، وارتفاع أسعار المواد الغذائية والمشتقات النفطية، وانعدام الرواتب، وغياب الخدمات الأساسية، فإن تلك الممارسات قد تقود إلى مواجهة أخرى أشد من أحداث يناير الماضي.

وعلى الطرف الآخر كان تحالف الحوثي وصالح تحالفاً هشاً، إذ عُرف عداء الطرفين لبعضهما وخوضهما عدة حروب إبان حكم صالح، فيما تلخصت نقطة اتفاق الطرفين بعدائهما للرئيس هادي، لكن تحالفهما ما لبث أن يدخل في تصدع واختلاف تصاعدت وتيرته يوماً بعد آخر، ليؤول بهم الأمر إلى معارك دامية في صنعاء سرعان ما تمكن طرف الحوثي من حسمها بسيطرته على صنعاء وقتل صالح وبعض القيادات المقربة منه في منزله بصنعاء.


الحوثي يهدد الملاحة البحرية:

على مسار جبهات الحرب رغم حالة الجمود والمراوحة التي تعيشها مختلف نقاط التماس بين التحالف والحوثيين المدعومين من إيران، فقد شكلت عمليات تحرير مدينة المخا وبعض مدن الحديدة نقطة دفع للتحالف حثته على التقدم نحو مدينة الحديدة الاستراتيجية التي تشكل عملية تحريرها فيما لو تحققت نقطة فارقة في مسار الأزمة الراهنة مع الحوثيين.

إلا أن تدخل الأمم المتحدة مدعومة بمواقف ضغط دولي مارستها الدول الكبرى على التحالف العربي لإيقاف تقدم قوات العمالقة والمقاومة التهامية المدعومة من التحالف العربي، دفع بدولة الإمارات العربية المتحدة التي تقود العملية هناك إلى إيقاف العملية بشكلٍ مؤقت مقررة منح فرصة لمبعوث الأمين العام للأمم المتحدة لقيادة وساطة بهدف إقناع الحوثيين بتسليم ميناء ومدينة الحديدة بشكلٍ سلمي.

بيد إن المبعوث الأممي وصل إلى باب مسدود حال دون إقناع الحوثيين بذلك، إذ كانوا وعدوه في بادئ الأمر بتسليمها للأمم المتحدة لتقوم بإدارتها باعتبارها طرف محايد، إلا إنهم سرعان ما تراجعوا عن الانسحاب بعد قبول الإمارات بإيقاف التقدم امتثالاً لجهود المبعوث الأممي.

لم يقف الحوثي عند هذا الحد بل اتجه لتنفيذ تهديدات إيرانية أطلقتها وزارة الخارجية الإيرانية توعدت خلالها بمنع تصدير النفط من دول الخليج إلى أوروبا وأمريكا رداً على العقوبات الأمريكية المفروضة على إيران.

وعلى إثر تلك التهديدات قام الحوثيين باستهداف ناقلتين نفطيتين سعوديتين عند مرورهما في مياه البحر الأحمر قبالة سواحل الحديدة، الأمر الذي دفع المملكة إلى الإعلان عن إيقاف تصدير النفط عبر البحر الأحمر، في خطوة فسرها محللون سياسيون بأنها تهدف للضغط على الدول الكبرى بغية التدخل إلى جانبها لإيقاف تدخلات إيران في المنطقة.


تغيير المعادلات الميدانية:

كل تلك الأحداث وغيرها ألقت بضلالها على المشهد العام فكانت منطلقاً لتغيير المعادلات، وإعادة رسم وصياغة المشهد السياسي اليمني وخارطة التحالفات السياسية على مستوى المنطقة لترسم معه معالم خارطة الحاضر والمستقبل.

حيث أن ما أفرزته الحرب من متغيرات على أرض الواقع ولدت حقائق عسكرية وسياسية واجتماعية يصعب القفز عليها، وفي نفس الوقت عمقت من حالة الإرباك نتيجة تكافؤ ميزان القوى بين مختلف أطراف الصراع المحلية الفاعلة على الساحة.

كما إنه في حال وُجِد تراجع أو انحسار لقوة أحد الأطراف سارع حلفاءه الإقليميين وأصدقائه الغربيين لإسناده وترجيح كفته، أو تقوية موقفه بما يمنع انهياره ويحول دون تقليص نفوذه.

ونتاجاً لذلك، تصبح حالة المراوحة في ذات الموقع واستمرار الوضع على حاله لأطول وقت ممكن هي السمة السائدة على المشهد ما لم يتمكن أحد الأطراف من اختراق مواقف الجهات الخارجية الحليفة أو الصديقة المساندة لهذا الطرف أو ذاك وتغيير مواقفها أو نيل موافقتها على تغيير الواقع العسكري على الأرض، بما يمكن من ترجيح الكفة لصالحه.


الحل الأمثل:

بالنظر إلى جذور الأزمة نجد بأنها تأسست من جذور الخطأ التاريخي الجسيم لمشروع الوحدة عام 1990م، والتي آلت إلى فشلٍ محتم انتهت معها الوحدة إثر أزمة حرب صيف 1994م بعد اجتياح الجنوب ووضعه قيد الغنيمة والإلغاء والتبعية لنظام صنعاء.

إذ لحق ذلك الاجتياح أحداثاً وممارسات قمع ونهبٍ واستيلاء وتنكيل وقتل، فضلاً عن إخضاع الجنوب بقوة السلاح وفرض هيمنة عسكرية وقبضة حديدية، سرح على إثرها كافة وحدات الجيش والأمن، وحرم الجنوبيين من كافة الامتيازات الممنوحة لنظرائهم الشماليين، إذ تم التعامل معهم كمواطنين من الدرجة الثانية، وهو الأمر الذي قاد إلى احتجاجات وتأسيس تشكيلات سياسية وعسكرية قوبلت جميعها بقمعٍ واضطهاد كبير، دون أن تخفت يوماً حتى تفجرت ثورة الحراك السلمي عام 2007م.

وما لحق ذلك من تراكمات لاحقة، تمثلت بثورة الشباب وأحداث الربيع العربي والحوار الوطني، وصولاً إلى انقلاب الحوثي وصالح على شرعية الرئيس هادي، وإعلان حرب ثانية لاجتياح الجنوب في مارس 2015م، وإطلاق عاصفة الحزم من قبل دول التحالف العربي.

كل تلك الأحداث قد أفرزت مساراً سياسياً وميدانياً أنتج واقعين منقسمين بين الشمال والجنوب، وانشطرت معهما هياكل ومؤسسات الدولة إلى قسمين جسدت بوضوح حقيقة الاختلاف وصعوبة الانسجام بين الدولتين والشعبين في كلٍ من: (ج. ي. د. ش – الجنوب العربي) و (ج. ع. ي- المملكة المتوكلية)، وهذا يؤكد بشكلٍ باتٍ وقاطع أن عودة الدولتين هو الحل الأمثل لإيقاف دورات الصراع وتداعياتها الكارثية على السلم والأمن في المنطقة والعالم.

وبالتالي فلا مناص من العودة إلى الجذور الحقيقية لأصل النزاع، واستعادة قوام واستقلال الدولتين، وهو ما يتطلب القبول به والإسراع بتنفيذه لتتفرغ كلاً منهما لبناء ذاتها، وتبدأ بإقامة علاقات حسن جوار وتعاون وتبادل مصالح بين الدولتين، مع إمكانية إقامة إتحاد كونفدرالي بين الدولتين، والبدء بتنفيذ سياسات مرحلية للدخول في مجلس التعاون الخليجي، وتحسين مستوى العلاقات لدى كلا الدولتين مع كافة دول المنطقة والعالم بشكلٍ عام.