تحقيقات وحوارات

الثلاثاء - 25 ديسمبر 2018 - الساعة 02:39 ص بتوقيت اليمن ،،،

تحديث نت / متابعات .


لم تكن الحملات الإعلامية الموجهة المعادية للمملكة العربية السعودية وليدة اللحظة عند مقتل الناشط السياسي السعودي جمال خاشقجي؛ فقد سبق أن عملت مجموعة من المنافذ الإعلامية الأمريكية على استهداف الرياض بتوجيه من مهندسي السياسة الخارجية الأمريكية إبان حكم الرئيس باراك أوباما، الذين وجدوا أنفسهم متناغمين مع عملية إعلامية تركية – قطرية متطورة لاستهداف التحالف الأمريكي – السعودي آنذاك.

في ذلك الحين، قاد مدير الاتصالات السابق في مجلس الأمن القومي الأمريكي، بن رودس، حملة لتنظيم أصوات مؤثرة لدعم سياسة الرئيس أوباما، الذي رأى في أنظمة إيران وقطر وتركيا قوةً إيجابية في الشرق الأوسط. وقد تزامنت تلك الحملة مع حملة دعم وتأييد أمريكي لجماعة الإخوان المسلمين عبر الشرق الأوسط، مقابل حملة تشويه ضد الرياض.

في الحقيقة، وجدت السعودية نفسها هدفًا لمجموعة من الصحف الأمريكية العدائية حتى قبل بروز قضية خاشقجي بفترة طويلة. ولكن بحلول الأسبوع الأول من شهر أكتوبر/تشرين الأول 2018، وجدت الأصوات الأمريكية ذاتها فرصة جديدة للانتقام من الرياض عبر عاصفة إعلامية عالمية مكثفة، بالتواطؤ مع وسائل إعلام قطرية – تركية.

وبسبب التحيزات السياسية، والبيئة الفكرية التي أنشأها مهندسو إدارة أوباما، أصبحت النخب الأمريكية وصانعو السياسات الأمريكيين أهدافًا لينة للنفوذ القطري القائم على المال وعلى عمليات التضليل المعلوماتية. هذه العمليات القطرية استخدمت وسائل الإعلام والأدوات التقليدية للعلاقات العامة لتعزيز مصالح الدوحة عبر روايات محددة، كوّنت رسالة سلبية حول من تراهم قطر أعداء لها. وهذا هو السبب الرئيس الذي جعل من قضية خاشقجي أداة رائجة لضرب الرياض من جديد.

وبهذا الشكل، جرى تجيير رواية مقتل خاشقجي لخدمة المصالح القطرية – التركية بغرض تقويض الرياض في نهاية المطاف. في الحملة الإعلامية، جرى تصوير خاشقجي كـ”شهيد، وبطل الصحافة الحرة والحرية”، بينما جرى تصوير السعودية على أنها تجسيد لـ”الشر والقسوة”. من الواضح تمامًا أن موت خاشقجي تحول إلى جبهة رئيسة في حرب قطر على الدول الخليجية المجاورة، بل وأصبح “أداة ثمينة” تشابه الأصول العقارية التي لا تقدر بثمن في يد قطر.

لقد ارتكزت جهود تحويل خاشقجي من ناشط سياسي إلى “صحفي وشهيد من أجل الحرية” على عملية تضليل معلوماتية ذكية، أجريت إلى حد كبير في الولايات المتحدة. هذه العملية استهدفت جمهورًا متنوعًا يمتد من الباحثين الأكاديميين إلى الشخصيات الإعلامية والسياسية، لحثهم على العمل بناء على الموقف الجديد، وعلى المعلومات الجديدة التي أدخلتها الحملة الإعلامية إلى دائرة النقاش العام. تلك الجهود هي ما شجع الكثير من وسائل الإعلام على الثناء على خاشقجي باعتباره كاتب عمود، وتحويله إلى شهيد من أجل قيم الديمقراطية وحرية التعبير.

لقد قادت صحيفة واشنطن بوست حملة ضغط متهورة معادية للسعودية في العاصمة واشنطن ابتداءً من أكتوبر/تشرين الأول، ما دفع مجلة تايم الأمريكية إلى اعتبار خاشقجي “شخصية العام” في غلافها الرئيس. ومن الملاحظ أن واشنطن بوست لم تخجل، في بادئ الأمر، من اعتبار خاشقجي “رمزًا لنضال أوسع من أجل حقوق الإنسان”، برغم معرفتها المسبقة بطبيعة عمل الرجل كعميل سياسي ومندوب لدولة أخرى ثالثة. لقد تجاهلت واشنطن بوست، ومعها المنافذ القطرية والتركية، الحقائق البارزة حول خاشقجي، وتاريخه الطويل كمدافع عن جماعة الإخوان المسلمين، وتعاونه القديم مع أسامة بن لادن في أفغانستان، وكراهيته تجاه بعض فئات المسلمين، وكذلك صلاته المالية والأيديولوجية المشبوهة مع قطر.

ولكن الآن، وبشكل مثير للصدمة، اعترفت صحيفة واشنطن بوست ذاتها، في تقرير في 22 ديسمبر/كانون الأول، أن تلك الحقائق حول خاشقجي صحيحة وليست شائعات. نحن نعلم الآن أن جمال خاشقجي لم يكن صحفيًا على الإطلاق، ليس بالمعنى المعتاد على أقل تقدير. بل كان ناشطًا حزبيًا للغاية، ينشر رسائل دعائية معادية للسعودية بناء على طلب من قطر. وبعبارة أخرى، لم يكن خاشجقي أكثر من وكيل نفوذ.

وقد برزت تقارير في الآونة الأخيرة في واشنطن حول رسائل نصية خاصة بجمال خاشقجي، تقدّم أدلة على وجود برقيات من قطر لخاشقجي، عُثر عليها في مسكنيه في أنقرة وفرجينيا.

ومن المحتمل أن هذه المعلومات التي كشفت عنها واشنطن بوست مؤخرًا جاءت كإجراء استباقي لتقليل الأضرار التي ستنجم عن تحقيق صحفي جديد تجريه صحيفة أخرى من وراء الكواليس، ستكشف فيه عن معلومات صادمة حول خاشقجي.

وقد اعترف المراسلان “سواد ميخينيت” و”غريغ ميلر” في واشنطن بوست أن “هنالك رسائل نصية متبادلة بين خاشقجي ومديرة مؤسسة قطر الدولية، ماغي ميتشل سالم، تظهر بشكل واضح أن “سالم” هي من قامت بتصميم محتويات المقالات التي اعتاد خاشقجي على نشرها في صحيفة واشنطن بوست، بما يشمل اختيار العناوين، وصياغة المواد، وكذلك حثه على اتخاذ مواقف أكثر تشددًا تجاه الحكومة السعودية”. كما تطرق تقرير واشنطن بوست إلى “سياق حرج” حول علاقات خاشقجي مع الإسلاميين وجماعة الإخوان المسلمين، وارتباط ذلك بعمله كوكيل لقطر.


يشكّل تقرير واشنطن بوست أهمية كبرى، لأن الحملة الرامية إلى تعظيم خاشقجي، وتدمير العلاقات السعودية – الأمريكية، مبنية على أساس أن السعوديين قتلوا صحفيًا حرًا وليس ناشطًا سياسيًا يعمل لصالح دولة معادية لبلاده. من المهم جدًا التعمق في معرفة الحقيقة حول خاشقجي وعلاقته بمشغلي المعلومات القطريين. إن القتل الدموي لجاسوس خارج بلاده ليس بالأمر الجميل، لكن لا بد من توضيح الصورة الحقيقية التي أراد الإعلام إخفاءها.

يمكننا اليوم فهم الآثار المترتبة على العملية المعلوماتية التي قادتها قطر بالتعاون مع تركيا، وتأثيرها في النقاد الذين كانوا يحاولون إنشاء سيرة ذاتية كاذبة لخاشقجي. لقد استغلت قطر وتركيا حكمة السعودية وصمتها في الساعات الـ36 الأولى من اختفاء خاشقجي، من أجل تسريب تقارير وحشية حول وفاة الرجل في إسطنبول. وجد الأتراك في قضية خاشقجي فرصة لمنافسة نفوذ المملكة في العالم الإسلامي، بينما تجرأت قطر على استخدام معلومات ملفقة لتشويه الرياض عبر وسائل إعلام أمريكية بارزة، لا سيما “ديفيد كيركباتريك” في نيويورك تايمز، وفريق ضخم من واشنطن.

لقد تواطأت وسائل إعلام أمريكية مع قناة الجزيرة القطرية، ومع موقع “ميدل إيست آي” البريطاني التابع لقطر، في ترويج معلومات مسربة ملفقة، منسوبة لما أسمته “مصدرًا تركيًا”، يقيم حتمًا في قطر. وبالطبع، أخفت المنافذ الأمريكية عن قرائها ومتابعيها مخاطر اعتماد تقاريرها على الروايات القطرية – التركية، وطبيعتها المشبوهة.

أما السياسيون الأمريكيون الذين اشتركوا في حملة تشويه الرياض، فهم إما معارضون للرئيس ترامب، أو مؤيدون لإيران، أو متساهلون مع موقف الإخوان المسلمين، أو مزيج من الثلاثة كما هو الحال مع واشنطن بوست. وبغض النظر عن الدوافع، يمكن الجزم أن قطر نجحت في شراء ذمم الكثير من السياسيين الأمريكيين، وأن حملتها الإعلامية المغرضة قد أثمرت دون أدنى شك.