ادب وشعر

الأحد - 10 فبراير 2019 - الساعة 05:36 م بتوقيت اليمن ،،،

تحديث/ خاص:


لم تكن الرحلات مجرد تجوال في الآفاق هدفه التسجيل الجغرافي ورصد المشاهد والعمران فحسب، بل كانت تلك الرحلات مجالاً رحباً للنواحي الفنية والجمالية والملامح الأدبية والأسلوبية والتحليل الدقيق الموسوعي لطبائع الشعوب من وجهٍ آخر.
وعلى الرغم من أن الرحالة لم يكونوا من أرباب الأقلام وصناعة البيان إلا أن مادة الرحلات اكتسبت صفة شعبية وتداولاً واسعاً بين القراء على شتى المستويات.
والدراسة التي بين أيدينا (أدب الرحلات) تتأتى أهميتها في كونها دعوة للقراءة الجديدة لأعمال التراث القديمة بصفة خاصة، وكونها دراسة تحليلية لأدب الرحلات من منظور (أنثوجرافي) وكون هذه الرحلات إحدى المصادر الهامة لإلقاء الضوء على الثقافة العربية في عصورها المختلفة.
يقوم الكتاب على مقدمة يليها ثمانية فصول وقد ختم كل فصل بنتائج هامة وثبتٍ للمصادر والمراجع التي أفاد منها الباحث.
ثم يبدأ المؤلف الفصل الأول: بكلام عن أثر الرحلات في اكتشاف العالم والإنسان، وهي قديمة قدم الإنسان ذاته، ولعبت دوراً هاماً في الكشف الجغرافي والكشف اللغوي للبشر ومن هنا يرى الكثير من الباحثين أن هذه الرحلات وضعت الجذور الأولى لمادة (الأنثوجرافيا) التي تشكل بدورها قاعدة هامة للمقارنة بين النظم الاجتماعية لدى البشر. ثم يتناول الباحث بعض الرحلات التي أحدثت كشفاً عظيماً ونتج عنها دفعة نحو تغيير نظرة الإنسان لذاته ولغيره كما فتحت آفاقاً لا حدود لها في مسار حركة الحياة والتاريخ ومن ذلك:
1 – رحلة البندقي ماركو بولو (1254 – 1324) الذي أحدث صدمة لأوروبا التي كانت ترى أن مقدار تخلف الشعوب بمقدار بعدها جغرافياً عن أوروبا في حين أثبت ماركو بولو العكس تماماً حين زار الشرق ورأى عالماً جديداً وصفه وصفاً أميناً ودحض بذلك مقولة التفوق الحضاري لأوروبا وأثبت أن هناك عالماً شرقياً أكثر تفوقاً آنذاك.
2 – ابن بطوطة: أعظم الرحالة العرب على الإطلاق وقد امتدت رحلاته من المحيط الأطلسي غرباً إلى بحر الصين شرقاً، استغرقت رحلاته أكثر من تسعة وعشرين عاماً جمعت في كتاب (تحفة النظّار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار) وقد كشفت رحلاته عن الإنسان المسلم وعن طبيعة الأمة الإسلامية وأبرزت الرحلة الجانب المشرق من الحضارة الإسلامية.
كما تناول الباحث عدداً من الرحلات منها رحلات (فاسكو دي غاما) و(كولومبوس) و(ماجلان) وغيرهم. ثم تناول الباحث الوسائل التي ساعدت على دفع الرحلة وتطورها نحو الأمام فذكر من ذلك اختراع الطباعة.
ويعرض الكاتب في هذا الفصل لنوع شفاف من الرحلات سميت (رحلات الهروب والاغتراب) حيث يتخيل الرحالة أنه ينتقل إلى عالم وزمان ومكان غير عالمه ومكانه وزمان آخرين بعيداً عن الشر والصراع ينعم في هذا العالم بحياة بسيطة خالية من التعقيدات الحضارية.
وفي الفصل الثاني: تناول الباحث مفهوم الأنثوجرافيا والأنثوجرافيين كرحالة، بعد أن مهد لمصطلح (الأنثوجرافيا) في أنها كلمة معرّبة تعني الدراسة الوصفية لأسلوب الحياة ومجموعة التقاليد والعادات والقيم والأدوات والفنون والمأثورات الشعبية لدى جماعة أو مجتمع معين.
ويشير الباحث إلى أن المؤلفات التي وضعت في باب الرحلات يحفل العديد منها بمضمون أثنوجرافي، ثم عرض لأربعة نصوص تبين تنوع مادة الرحلات من ناحية الموضوع والزمان والمكان، ومن النماذج التي عرضها المؤلف: المقدسي كرحالة أثنوجرافي وبخاصة في مؤلفه (أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم) حيث مزج الرحالة بين الحس الأثنوجرافي والنزعة الأدبية في عرض المعلومات بطريقة متسلسلة مع الربط بين البيئة والناس.
ولو دققنا على نصوص من رحلات متعددة لوجدنا أن أغلب الرحالة المسلمين ينطبق عليهم منهج المزج بين الرحلة والأثنوجرافيا كما يرى الباحث بل إن منهج الرحالة يكاد يفوق أحياناً القواعد المنهجية للدراسات الأثنوجرافية ويستدل الباحث بمقبوسات من رحلة المسعودي وياقوت الحموي والإدريسي وابن بطوطة.
وفي الفصل الثالث، يتناول الباحث الرحلة في التراث العربي الإسلامي حيث استعرض في مقدمة هذا الفصل الأصول الأولى للرحلة في شبه الجزيرة العربية والبلدان المتاخمة كرحلة الشتاء والصيف التي سجلها القرآن الكريم، وفي صدر الإسلام توسعت آفاق الرحلة العربية ودوافعها ولاسيما في فترة الفتوحات الإسلامية، وأكد الباحث على دور الحج في كونه من العوامل الهامة التي دفعت المسلمين من كل فج عميق وعلى كل ضامر إلى الرحلة والانتقال، ففضلاً عن صفة الحج الدينية اكتسبت رحلة الحج صفة تراثية وشعبية ثم انطلقت الرحلة في عصر الخلفاء الأمويين بقصد الفتوح، وفي عهد العباسيين تطورت الرحلات لتشمل ما يسمى بالرحلات التكليفية التي اتخذت طابع المهمات الرسمية من الخلفاء العباسيين كما فعل الواثق بالله حين أرسل رحالة إلى جبال القوفاز (227)هـ.
ثم يتناول الباحث في هذا الفصل موقف الإسلام من الرحلات وهو أنه ندب لها إن كان غرضها سامياً كطلب العلم والتفقه في الدين والمعرفة بأحوال الأمم والدعوة لدين الله عز وجل. فالرحالة المسلمون كانوا دعاة للإسلام بكل ما تعني الكلمة من معنى متأدبين بآداب السفر معدّين العدّة المعنوية والمادية فرحلتهم ضربٌ في سبيل الله وجهاد.
ويقف الباحث في هذا الفصل على ظاهرة وجدانية في أدب الرحلات هي ظاهرة الحنين إلى الأوطان، ولا سيما أن السفر قطعة من العذاب فضلاً عن البعد عن الأهل حيث يظهر الرحالة تعلقه الشديد بمسقط رأسه ومهد صباه، مع شعور مرير بالاغتراب وهذه الظاهرة نجدها عند القدماء والمحدثين من الرحالة على حد سواء ويسوق الباحث ههنا أشعاراً تسيل حرارة وعاطفة للوطن والأهل.
ويبدأ الفصل الرابع من الكتاب تحت عنوان: (التراث الشعبي في أدب الرحلات ومنهج الدراسة)، يعرض فيه الباحث لمفهوم التراث الشعبي والخلاف في مفهومه ولكن الجميع متفق على أن التراث الشعبي يتناول بعدين هما: البعد التاريخي والبعد الحضاري، ويؤكد الباحث على أن فحصنا للتراث الشعبي في أدب الرحلات يجب أن يوجه نحو استقراء القيم المعلنة كما تبرزها عادة كتابات الفقهاء والأدباء والمؤرخين، وذلك مقابل القيم المعاشة التي نجدها عادة في كتابات الرحالة مع الأخذ بعين الاعتبار أن درجة التزام الرحالة نحو السلطة يؤثر بلا شك في نوعية ومصداقية ما كتبوا، الأمر الذي يجعلنا نرى أن التراث الشعبي في أدب الرحلات يجب أن يتم في إطار معرفي وتاريخي وفلسفي أيضاً.
وفي الفصل الخامس يعرض الباحث لذكر أحوال المجتمعات ومعاشهم، حيث يركز الرحالة كما يرى الباحث على وصف خيرات الأماكن والمدن والقرى كوصف ابن جبير لخيرات مكة تحت عنوان (ما اختص الله به مكة) ومما يسترعي الانتباه ذكر ابن جبير أوصاف الحياة الرغيدة في مكة في سنة زيارته لها وتمييزها عما سلف من السنين، حتى إنه ذكر أن ماء زمزم المبارك زاد عذوبة ولم يكن كذلك قبل سنوات.
ثم يتعرض الكاتب لغرائب الأطعمة في رحلات عبد اللطيف البغدادي مما هو من مشاهدات مصر، وعجائب أطعمة أهل الهند عند البيروني، ثم يتعرض الكاتب لوصف ابن بطوطة للطعام في باب (ترتيب الطعام الخاص والعام) ثم ذكر موقف الشدياق من مائدة الإنجليز وعاداتهم في الموائد والأطعمة وذلك في كتابه (الواسطة في معرفة أحوال مالطة وكشف المخبّأ عن فنون أوروبا) وليس غرض الكاتب من هذا الفصل إلا إجراء مقارنة بين أطعمة العرب وأطعمة الأمم الأخرى بين القديم والحديث وعبر العصور.
وفي الفصل السادس يتناول الباحث بالتحليل (رحلات الخيال وأثنوجرافيا الواقع) فيرى أن الأثنوجرافيا تسعى إلى إعادة تصوير أوجه الحياة اليومية والعناصر الحضارية مادية كانت أو روحية، ومن ناحية صلة ذلك بأدب الرحلات يقدم لنا الباحث فرضية أحتواء رحلات الخيال على مادة ذات قيمة أنثوجرافية خصوصاً إذا كان عمل الدارسين موجهاً نحو إعادة تصوير عناصر ثقافية سالفة أو جوانب الحياة الاجتماعية لأقوام وبلدان لم تعد قائمة الآن.
ويركز الباحث هنا على الرحلة الخيالية التي يطلق فيها الكاتب العنان لفكره ليبتعد عن واقعه وعالمه إلى عالم آخر متباعد، وهذا ما ألمحنا إليه في الفصل الأول بما يسمى (الاغتراب الروحي)، ولذا صار أدب الرحلات يشمل كل ما يكتبه الرحالة سواء من سار منهم في البقاع أو من تجول بأفكاره وخياله، ويطرح الباحث أمثلة شعرية للظاهرة الثانية وهي الرحلة الخيالية فمن ذلك الديوان الشرقي للألماني (جيته) ومن الأدب العربي (المويلحي)، فكلاهما رحلة زمان ومكان ولو بصورة رمزية عكست حالة من الاغتراب الروحي.
وفي الفصل السابع، يتناول الباحث الرحالة المسلمين وموقفهم من ثقافة الغير فيؤكد أن الغرب لم يكن أول الغير الذي وصفه كتاب الرحالة المسلمون، وتطورت هذه النظرة إلى الغير شيئاً فشيئاً من خلال الاحتكاك عبر الفتوحات التي امتد بها الزمن إلى مشارف القرن الخامس، وتميزت ذهنية الرحالة في هذه الفترة في إطار الشعور بالتميز والغلبة السياسية، والفترة الثانية تتمثل في فترة الضعف الذي اعترى الدولة الإسلامية، وصار مقصد الرحالة تتجاوز إطار العالم الإسلامي وبصورة عامة فإن الباحث يرى أن مفهوم المفاضلة سيطر على ذهنية الرحالة المسلمين وشكلت هذه المفاضلة جزءاً هاماً من التفكير العربي الإسلامي في عصر الحضارة الإسلامية وقد انعكس أثر ذلك على كتابات الرحالة المسلمين القدامى ونظرتهم إلى ثقافة الغير ولا سيما إذا كان هذا الغير صاحب عادات وتقاليد تخالف ما تعود عليه الرحالة وألفوه، ولذا فمن الرحالة من غلا في ذم الآخر ومنهم م وقف موقفاً معتدلاً كما فعل أبو حيان التوحيدي حين قال: «لكل أمة فضائل ورذائل ولكل قوم محاسن ومساوئ ولكل طائفة من الناس في صناعتها وحلها وعقدها كمال وتقصير، وهذا يقضي بأن الخيرات والفضائل والشرور والنقائض مفاضلة على جميع الخلق».
أما الفصل الثامن هو آخر فصول الكتاب فيركز فيه الباحث على الملامح الحضارية للرحالة المسلمين، وما قدموه للعالم ولا سيما في مجال الرحلة البحرية حيث إن القاصي والداني والكثير من المستشرقين يقرون أن الرحالة العرب كانوا أسبق في مجال الملاحة البحرية والكشف البحري ولا سيما أن الرحلات البحرية العربية قد ربطت بين سواحل أفريقيا والشرق ومناطق عديدة من آسيا وفي عصر النهضة يكفي كدليل على أهمية الملاحة والرحلة البحرية في العصر الحديث الكلام الموجز عن الجانب الحضاري لأحد مرافئ المملكة الإسلامية في عصر النهضة أو وهو ميناء (سيراف) الواقع على الجانب الفارسي من الخليج.
وكان هذا المرفأ من أهم المرافئ في العصر العباسي ومنه كانت تمر صادرات فارس ووارداتها، ونظراً لذلك كان أهل سيراف أغنى تجار فارس كلها، رغم أن سيراف كانت واقعة في بيئة جدبه كما يذكر الرحالة آنذاك، ونظراً للتأثر والتأثير لا تزال اللغة العربية إلى اليوم تستعمل في كثير من الاصطلاحات البحرية الفارسية.
ولا يغفل الباحث دور البحر في مادة الرحلات الواقعية والخيالية على حد سواء حيث يختلط الواقع بالخيال وتتداخل الأسطورة في الحقيقة في وصف الرحلات البحرية، ويمثل الباحث برحلة واقعية لابن جبير ورحلة خيالية للسندباد الذي يمثل أسطورياً كفاح الإنسان منذ ما قبل التاريخ.
إن كتاب (أدب الرحلات) كتاب لا غنى عنه في بابه حيث سار الباحث فيه وفق منهج جديد لدراسة موضوع قديم مبرزاً الصلة بين الرحلة والحضارة الإنسانية وأنها جزء منها ونتاج لها، وأن الرحلة كشف للذات وفهم للآخر، وانفتاح عليه، مؤكداً أن التاريخ عامة وتاريخ الرحلات خاصة بحاجة إلى رؤية جديدة وأن البحث في تاريخية الثقافة العربية بطريقة نقدية يجب أن يتسع ليضمن مختلف المناهج وأن يستند إلى العديد من المصادر الرسمية منها والشعبية على حد سواء، ومن هنا يبرز أثر أعمال الرحالة كرافد من روافد المعرفة التي تلقي الضوء على الثقافة العربية والإسلامية في عصورها المختلفة. تكن الرحلات مجرد تجوال في الآفاق هدفه التسجيل الجغرافي ورصد المشاهد والعمران فحسب، بل كانت تلك الرحلات مجالاً رحباً للنواحي الفنية والجمالية والملامح الأدبية والأسلوبية والتحليل الدقيق الموسوعي لطبائع الشعوب من وجهٍ آخر.
وعلى الرغم من أن الرحالة لم يكونوا من أرباب الأقلام وصناعة البيان إلا أن مادة الرحلات اكتسبت صفة شعبية وتداولاً واسعاً بين القراء على شتى المستويات.
والدراسة التي بين أيدينا (أدب الرحلات) تتأتى أهميتها في كونها دعوة للقراءة الجديدة لأعمال التراث القديمة بصفة خاصة، وكونها دراسة تحليلية لأدب الرحلات من منظور (أنثوجرافي) وكون هذه الرحلات إحدى المصادر الهامة لإلقاء الضوء على الثقافة العربية في عصورها المختلفة.
يقوم الكتاب على مقدمة يليها ثمانية فصول وقد ختم كل فصل بنتائج هامة وثبتٍ للمصادر والمراجع التي أفاد منها الباحث.
ثم يبدأ المؤلف الفصل الأول: بكلام عن أثر الرحلات في اكتشاف العالم والإنسان، وهي قديمة قدم الإنسان ذاته، ولعبت دوراً هاماً في الكشف الجغرافي والكشف اللغوي للبشر ومن هنا يرى الكثير من الباحثين أن هذه الرحلات وضعت الجذور الأولى لمادة (الأنثوجرافيا) التي تشكل بدورها قاعدة هامة للمقارنة بين النظم الاجتماعية لدى البشر. ثم يتناول الباحث بعض الرحلات التي أحدثت كشفاً عظيماً ونتج عنها دفعة نحو تغيير نظرة الإنسان لذاته ولغيره كما فتحت آفاقاً لا حدود لها في مسار حركة الحياة والتاريخ ومن ذلك:
1 – رحلة البندقي ماركو بولو (1254 – 1324) الذي أحدث صدمة لأوروبا التي كانت ترى أن مقدار تخلف الشعوب بمقدار بعدها جغرافياً عن أوروبا في حين أثبت ماركو بولو العكس تماماً حين زار الشرق ورأى عالماً جديداً وصفه وصفاً أميناً ودحض بذلك مقولة التفوق الحضاري لأوروبا وأثبت أن هناك عالماً شرقياً أكثر تفوقاً آنذاك.
2 – ابن بطوطة: أعظم الرحالة العرب على الإطلاق وقد امتدت رحلاته من المحيط الأطلسي غرباً إلى بحر الصين شرقاً، استغرقت رحلاته أكثر من تسعة وعشرين عاماً جمعت في كتاب (تحفة النظّار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار) وقد كشفت رحلاته عن الإنسان المسلم وعن طبيعة الأمة الإسلامية وأبرزت الرحلة الجانب المشرق من الحضارة الإسلامية.
كما تناول الباحث عدداً من الرحلات منها رحلات (فاسكو دي غاما) و(كولومبوس) و(ماجلان) وغيرهم. ثم تناول الباحث الوسائل التي ساعدت على دفع الرحلة وتطورها نحو الأمام فذكر من ذلك اختراع الطباعة.
ويعرض الكاتب في هذا الفصل لنوع شفاف من الرحلات سميت (رحلات الهروب والاغتراب) حيث يتخيل الرحالة أنه ينتقل إلى عالم وزمان ومكان غير عالمه ومكانه وزمان آخرين بعيداً عن الشر والصراع ينعم في هذا العالم بحياة بسيطة خالية من التعقيدات الحضارية.
وفي الفصل الثاني: تناول الباحث مفهوم الأنثوجرافيا والأنثوجرافيين كرحالة، بعد أن مهد لمصطلح (الأنثوجرافيا) في أنها كلمة معرّبة تعني الدراسة الوصفية لأسلوب الحياة ومجموعة التقاليد والعادات والقيم والأدوات والفنون والمأثورات الشعبية لدى جماعة أو مجتمع معين.
ويشير الباحث إلى أن المؤلفات التي وضعت في باب الرحلات يحفل العديد منها بمضمون أثنوجرافي، ثم عرض لأربعة نصوص تبين تنوع مادة الرحلات من ناحية الموضوع والزمان والمكان، ومن النماذج التي عرضها المؤلف: المقدسي كرحالة أثنوجرافي وبخاصة في مؤلفه (أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم) حيث مزج الرحالة بين الحس الأثنوجرافي والنزعة الأدبية في عرض المعلومات بطريقة متسلسلة مع الربط بين البيئة والناس.
ولو دققنا على نصوص من رحلات متعددة لوجدنا أن أغلب الرحالة المسلمين ينطبق عليهم منهج المزج بين الرحلة والأثنوجرافيا كما يرى الباحث بل إن منهج الرحالة يكاد يفوق أحياناً القواعد المنهجية للدراسات الأثنوجرافية ويستدل الباحث بمقبوسات من رحلة المسعودي وياقوت الحموي والإدريسي وابن بطوطة.
وفي الفصل الثالث، يتناول الباحث الرحلة في التراث العربي الإسلامي حيث استعرض في مقدمة هذا الفصل الأصول الأولى للرحلة في شبه الجزيرة العربية والبلدان المتاخمة كرحلة الشتاء والصيف التي سجلها القرآن الكريم، وفي صدر الإسلام توسعت آفاق الرحلة العربية ودوافعها ولاسيما في فترة الفتوحات الإسلامية، وأكد الباحث على دور الحج في كونه من العوامل الهامة التي دفعت المسلمين من كل فج عميق وعلى كل ضامر إلى الرحلة والانتقال، ففضلاً عن صفة الحج الدينية اكتسبت رحلة الحج صفة تراثية وشعبية ثم انطلقت الرحلة في عصر الخلفاء الأمويين بقصد الفتوح، وفي عهد العباسيين تطورت الرحلات لتشمل ما يسمى بالرحلات التكليفية التي اتخذت طابع المهمات الرسمية من الخلفاء العباسيين كما فعل الواثق بالله حين أرسل رحالة إلى جبال القوفاز (227)هـ.
ثم يتناول الباحث في هذا الفصل موقف الإسلام من الرحلات وهو أنه ندب لها إن كان غرضها سامياً كطلب العلم والتفقه في الدين والمعرفة بأحوال الأمم والدعوة لدين الله عز وجل. فالرحالة المسلمون كانوا دعاة للإسلام بكل ما تعني الكلمة من معنى متأدبين بآداب السفر معدّين العدّة المعنوية والمادية فرحلتهم ضربٌ في سبيل الله وجهاد.
ويقف الباحث في هذا الفصل على ظاهرة وجدانية في أدب الرحلات هي ظاهرة الحنين إلى الأوطان، ولا سيما أن السفر قطعة من العذاب فضلاً عن البعد عن الأهل حيث يظهر الرحالة تعلقه الشديد بمسقط رأسه ومهد صباه، مع شعور مرير بالاغتراب وهذه الظاهرة نجدها عند القدماء والمحدثين من الرحالة على حد سواء ويسوق الباحث ههنا أشعاراً تسيل حرارة وعاطفة للوطن والأهل.
ويبدأ الفصل الرابع من الكتاب تحت عنوان: (التراث الشعبي في أدب الرحلات ومنهج الدراسة)، يعرض فيه الباحث لمفهوم التراث الشعبي والخلاف في مفهومه ولكن الجميع متفق على أن التراث الشعبي يتناول بعدين هما: البعد التاريخي والبعد الحضاري، ويؤكد الباحث على أن فحصنا للتراث الشعبي في أدب الرحلات يجب أن يوجه نحو استقراء القيم المعلنة كما تبرزها عادة كتابات الفقهاء والأدباء والمؤرخين، وذلك مقابل القيم المعاشة التي نجدها عادة في كتابات الرحالة مع الأخذ بعين الاعتبار أن درجة التزام الرحالة نحو السلطة يؤثر بلا شك في نوعية ومصداقية ما كتبوا، الأمر الذي يجعلنا نرى أن التراث الشعبي في أدب الرحلات يجب أن يتم في إطار معرفي وتاريخي وفلسفي أيضاً.
وفي الفصل الخامس يعرض الباحث لذكر أحوال المجتمعات ومعاشهم، حيث يركز الرحالة كما يرى الباحث على وصف خيرات الأماكن والمدن والقرى كوصف ابن جبير لخيرات مكة تحت عنوان (ما اختص الله به مكة) ومما يسترعي الانتباه ذكر ابن جبير أوصاف الحياة الرغيدة في مكة في سنة زيارته لها وتمييزها عما سلف من السنين، حتى إنه ذكر أن ماء زمزم المبارك زاد عذوبة ولم يكن كذلك قبل سنوات.
ثم يتعرض الكاتب لغرائب الأطعمة في رحلات عبد اللطيف البغدادي مما هو من مشاهدات مصر، وعجائب أطعمة أهل الهند عند البيروني، ثم يتعرض الكاتب لوصف ابن بطوطة للطعام في باب (ترتيب الطعام الخاص والعام) ثم ذكر موقف الشدياق من مائدة الإنجليز وعاداتهم في الموائد والأطعمة وذلك في كتابه (الواسطة في معرفة أحوال مالطة وكشف المخبّأ عن فنون أوروبا) وليس غرض الكاتب من هذا الفصل إلا إجراء مقارنة بين أطعمة العرب وأطعمة الأمم الأخرى بين القديم والحديث وعبر العصور.
وفي الفصل السادس يتناول الباحث بالتحليل (رحلات الخيال وأثنوجرافيا الواقع) فيرى أن الأثنوجرافيا تسعى إلى إعادة تصوير أوجه الحياة اليومية والعناصر الحضارية مادية كانت أو روحية، ومن ناحية صلة ذلك بأدب الرحلات يقدم لنا الباحث فرضية أحتواء رحلات الخيال على مادة ذات قيمة أنثوجرافية خصوصاً إذا كان عمل الدارسين موجهاً نحو إعادة تصوير عناصر ثقافية سالفة أو جوانب الحياة الاجتماعية لأقوام وبلدان لم تعد قائمة الآن.
ويركز الباحث هنا على الرحلة الخيالية التي يطلق فيها الكاتب العنان لفكره ليبتعد عن واقعه وعالمه إلى عالم آخر متباعد، وهذا ما ألمحنا إليه في الفصل الأول بما يسمى (الاغتراب الروحي)، ولذا صار أدب الرحلات يشمل كل ما يكتبه الرحالة سواء من سار منهم في البقاع أو من تجول بأفكاره وخياله، ويطرح الباحث أمثلة شعرية للظاهرة الثانية وهي الرحلة الخيالية فمن ذلك الديوان الشرقي للألماني (جيته) ومن الأدب العربي (المويلحي)، فكلاهما رحلة زمان ومكان ولو بصورة رمزية عكست حالة من الاغتراب الروحي.
وفي الفصل السابع، يتناول الباحث الرحالة المسلمين وموقفهم من ثقافة الغير فيؤكد أن الغرب لم يكن أول الغير الذي وصفه كتاب الرحالة المسلمون، وتطورت هذه النظرة إلى الغير شيئاً فشيئاً من خلال الاحتكاك عبر الفتوحات التي امتد بها الزمن إلى مشارف القرن الخامس، وتميزت ذهنية الرحالة في هذه الفترة في إطار الشعور بالتميز والغلبة السياسية، والفترة الثانية تتمثل في فترة الضعف الذي اعترى الدولة الإسلامية، وصار مقصد الرحالة تتجاوز إطار العالم الإسلامي وبصورة عامة فإن الباحث يرى أن مفهوم المفاضلة سيطر على ذهنية الرحالة المسلمين وشكلت هذه المفاضلة جزءاً هاماً من التفكير العربي الإسلامي في عصر الحضارة الإسلامية وقد انعكس أثر ذلك على كتابات الرحالة المسلمين القدامى ونظرتهم إلى ثقافة الغير ولا سيما إذا كان هذا الغير صاحب عادات وتقاليد تخالف ما تعود عليه الرحالة وألفوه، ولذا فمن الرحالة من غلا في ذم الآخر ومنهم م وقف موقفاً معتدلاً كما فعل أبو حيان التوحيدي حين قال: «لكل أمة فضائل ورذائل ولكل قوم محاسن ومساوئ ولكل طائفة من الناس في صناعتها وحلها وعقدها كمال وتقصير، وهذا يقضي بأن الخيرات والفضائل والشرور والنقائض مفاضلة على جميع الخلق».
أما الفصل الثامن هو آخر فصول الكتاب فيركز فيه الباحث على الملامح الحضارية للرحالة المسلمين، وما قدموه للعالم ولا سيما في مجال الرحلة البحرية حيث إن القاصي والداني والكثير من المستشرقين يقرون أن الرحالة العرب كانوا أسبق في مجال الملاحة البحرية والكشف البحري ولا سيما أن الرحلات البحرية العربية قد ربطت بين سواحل أفريقيا والشرق ومناطق عديدة من آسيا وفي عصر النهضة يكفي كدليل على أهمية الملاحة والرحلة البحرية في العصر الحديث الكلام الموجز عن الجانب الحضاري لأحد مرافئ المملكة الإسلامية في عصر النهضة أو وهو ميناء (سيراف) الواقع على الجانب الفارسي من الخليج.
وكان هذا المرفأ من أهم المرافئ في العصر العباسي ومنه كانت تمر صادرات فارس ووارداتها، ونظراً لذلك كان أهل سيراف أغنى تجار فارس كلها، رغم أن سيراف كانت واقعة في بيئة جدبه كما يذكر الرحالة آنذاك، ونظراً للتأثر والتأثير لا تزال اللغة العربية إلى اليوم تستعمل في كثير من الاصطلاحات البحرية الفارسية.
ولا يغفل الباحث دور البحر في مادة الرحلات الواقعية والخيالية على حد سواء حيث يختلط الواقع بالخيال وتتداخل الأسطورة في الحقيقة في وصف الرحلات البحرية، ويمثل الباحث برحلة واقعية لابن جبير ورحلة خيالية للسندباد الذي يمثل أسطورياً كفاح الإنسان منذ ما قبل التاريخ.
إن كتاب (أدب الرحلات) كتاب لا غنى عنه في بابه حيث سار الباحث فيه وفق منهج جديد لدراسة موضوع قديم مبرزاً الصلة بين الرحلة والحضارة الإنسانية وأنها جزء منها ونتاج لها، وأن الرحلة كشف للذات وفهم للآخر، وانفتاح عليه، مؤكداً أن التاريخ عامة وتاريخ الرحلات خاصة بحاجة إلى رؤية جديدة وأن البحث في تاريخية الثقافة العربية بطريقة نقدية يجب أن يتسع ليضمن مختلف المناهج وأن يستند إلى العديد من المصادر الرسمية منها والشعبية على حد سواء، ومن هنا يبرز أثر أعمال الرحالة كرافد من روافد المعرفة التي تلقي الضوء على الثقافة العربية والإسلامية في عصورها المختلفة.

د.حسين فهمي