ادب وشعر

السبت - 02 مارس 2019 - الساعة 06:52 م بتوقيت اليمن ،،،

تحديث/ متابعات:

يهدي صبحي شحاتة روايته «الحب»، الصادرة حديثاً عن دار «بدائل» بالقاهرة، إلى أم كلثوم «ثومة»، مسلطاً الضوء على هذا الكائن الخرافي منذ لحظة ميلاده وحتى أفوله، وفي لعبة سردية شيقة، تختلط فيها الفانتازيا بالسخرية، الفكاهة بالخرافة والأسطورة، الدعابة بروح المرح والتنكيت.
وتبرز المخيلة الشعبية في بداهتها الخام، كعين أخرى، تراقب وتعلِّق على المشاهد والحالات، من خلال أغاني الحب الشهيرة، والحكم والأمثال الشعبية والأشعار التي تتغنى بالحب، وتتقاطع مع فصول الرواية، كأنها تلخيص لما آلت إليه مصائر الشخوص وحكايتها داخل اللعبة وخارجها أيضاً.
رواية حمالة أوجه وأقنعة، تخفي تحت قشرتها دهاءً أدبياً، تعززه ثقافة واسعة ولغة سلسة مغوية، معجونة بطينة الواقع ومفارقاته، وتملك الذات الساردة قدرة فائقة على وصف الأشياء والوقائع والأحداث والنفاذ إلى ما وراءها، في لعبة لا توازن فيها عاطفياً وإنسانياً، بين الغني والفقر، الحب والكره، الحرمان والشبع، الأصل والقناع... وغيرها من المفارقات التي توسع دائرة الأضداد في مسيرة بشر يعيشون تحت سقف حياة عارية، إلا من الرغبة في الحب والشغف به كطوق نجاة من الفقر والجوع، بل من مباغتات القدر وتطوحات النفس البشرية، حين توهمك بأنك تملك كل شيء.
ربما لذلك يؤمن صبحي شحاتة بمقولة المفكر الفرنسي جيل دولوز الأثيرة: «إن الفعل البشري (فعل الوجود) نصفه للقدر ونصفه للإنسان وفطنته». بل بوعي ضمني من دولوز أحد عشاق نيتشه ومنتقديه، جعل صبحي من حرية الاختلاف والدفاع عنها، حجر الزاوية لفضاء رؤيته في هذه الرواية، هذه الحرية التي شكلت محوراً مهماً في أفكار دولوز وفلسفته، فأن تكتب معنى ذلك أنك تبدع شيئاً، أو على الأقل تحس أن لديك جديداً ينبع من داخلك ويميزك عن الآخرين، حتى تحت وطأة الحيرة والإحساس باللايقين، اللاخصوصية، اللامبالاة، والفوضى إلى حد العدم، والشك حتى في وجودك نفسه.
بدافع من هذا الوعي الضمني يبرز محور دال ومركزي في هذه الرواية، وهو الوجود البديل للأصل. فجوهر الحياة يكمن في كونها وجوداً متغيراً، بالضرورة، قابلاً للعيش بطرق وبدائل متعددة، كما أن هذا الجوهر الثابت المتغير معرض للضمور والذبول والموات، ما لم تتوفر بدائل وأشكال من الممارسة، تمنحه القدرة على التغيير، والانطلاق من نقطة الثبات إلى الحركة، والعكس أيضاً.
في لعبة الحب، كما في الرواية، يفرض الوجود البديل التقمصَ ليس كقناع للاختباء، وإنما محاولة لاكتساب حيوات وصفات وملامح ورتوش جديدة تجعل من فعل التقمص نفسه عابراً للزمان والمكان، صانعة نوعاً من التماهي، ولو بالوهم، بين الوجود بالفعل الأصلي المتروك، وبين الوجود الجديد المكتسب بالقوة، فالتقمص حلقة وصل وفصل بينهما، في الوقت نفسه... وفنياً يوفر التقمص للكاتب غطاءً سردياً، ليكون خارج نصه وداخله أيضاً، ما يمنح شخوصه قدراً من الاستقلالية والاختلاف، فلا يخلط بين صوته وأصواتها ولا بين أحلامه وأحلامها، محتفظاً بهويته الفنية، وممسكاً بخيوط وزاويا اللعبة، يحركها من خلف فعل القص، كصانع ومخرج لها، حتى وهو يروي عنها أو يحكي بلسان أبطالها، أو يشتبك معهم فكرياً ونفسياً، أو حين يتم تبديل دفة الضمائر لكسر تقنية المخاطب الغالبة على نسق السرد، وتنويعها، لتداخل الضمائر في نسيجها الضمائر، وتتقلب ما بين الأنا المتكلم الحاضر والغائب، والمفرد والجمع. لا يهدف الكاتب من وراء كل هذا لإبراز مهارته الفنية فحسب، بل ليضفي على الوجود البديل شرعية وواقعية، ويقنعنا بصدقية ما يحدث بالفعل.
يجسد «المانيكان» الشاب بطل الرواية ابن الحارة الشعبية الفقيرة نمط الوجود البديل للأصل، الذي يجسده الشاب الثري ابن الملياردير الوزير، صاحب النفوذ والجاه والسلطة، وتكشف الرواية عن مفارقات شاسعة ونقاط مشتركة بينهما في النظر إلى الحياة والوجود، فثمة حالة من الوجود بالتضايف، بين طرفين نقيضين، أحدهما يمثل نعيم السفح حيث الرفاهية والقوة وسطوة المال، والآخر يمثل حضيض السطح، حيث العدم والخواء، لكن في اللعبة وعلى السطح، توحدهما لحظات من اللهو والدعة العابرة الهشة، فكلاهما يضمر إعجاباً بالآخر، ويتعامل معه أحياناً كقرين، يمثل البعد عنه خسارة فادحة للطرفين وتهديداً لوجوده.