آخر تحديث :الجمعة-11 أكتوبر 2024-09:54م

كتابات


جبال اليمن والإنجليز والسوفييت والأمريكان وطالبان وإثيوبيا

جبال اليمن والإنجليز والسوفييت والأمريكان وطالبان وإثيوبيا

الإثنين - 06 سبتمبر 2021 - 03:32 ص بتوقيت عدن

- تحديث نت | مصطفى محمود سليمان * أستاذ الجيولوجيا بالجامعة البريطانية



مَن لم يقرأ التاريخ قد يذم الحاضر أو لا يفهمه.. جملة بليغة لمؤلف قصة الحضارة الأمريكى الأشهر ول ديورانت. لقد عشت فى اليمن بعض الوقت فى تسعينيات القرن الماضى رئيسًا لقسم الجيولوجيا بجامعة صنعاء، وسعدت بذلك، ولى كتاب عن اليمن عنوانه «رحلة فى أرض سبأ»، نشرته الهيئة المصرية العامة للكتاب، منذ سنوات، وقد تجولت مع طلابى فى قسم الجيولوجيا بجامعة صنعاء فى رحلاتنا الجيولوجية فى معظم أرجاء اليمن، فيما عدا منطقة صعدة، ولذلك قصة طريفة، فقد كان عميد كلية العلوم فى جامعة صنعاء آنذاك عضو هيئة تدريس بقسم الجيولوجيا، هو صديقى الدكتور صلاح الخرباش، وحاولنا أكثر من مرة أن نقوم برحلة جيولوجية إلى جبال صعدة، وكانت الكلية ترفض وتحول الرحلة إلى منطقة أخرى، وقد عرفت السبب بعد ذلك، وهو أن أهل صعدة هم من أنصار حكم أئمة اليمن، وكانوا يعادون النظام الجمهورى فى اليمن، ومن ثَمَّ يعادون مَن ناصر هذا النظام الجمهورى والمجمهرين، (المجمهرون بلغة اليمن تعنى الجمهوريين)، وهو الجيش المصرى، ومن ثَمَّ فلهم ثأر قديم على المصريين، وبالتالى- كما قيل لى- لو ذهبت أنا فى رحلة جيولوجية إلى صعدة فقد يحدث لى ما لا تُحمد عقباه.

وزُرت جزيرة سقطرى اليمنية، وهى متحف عملاق للتاريخ الطبيعى، بسكانها ولغاتهم وحيواناتها ونباتاتها الفريدة، ومنها شجرة دم الأخوين، والتى كان لعصارة هذه الشجرة، وهى عصارة حمراء مثل الدم، شأن كبير فى الطب القديم، حيث كانت تُستخدم لقطع النزيف وعلاج الإسهال والدوسنتاريا وعلاجًا للعين ولمنع العفونة وتطهير الجروح وتنظيف الأسنان، ويستخدم أهالى سقطرى، اليوم، عصارة «دم الأخوين» فى علاج المغص.. إلخ، وتقع جزيرة سقطرى فى بحر العرب، وتبعد نحو ألف كيلومتر عن عدن ونحو 300 كيلومتر عن حضرموت ونحو 200 كيلومتر عن الصومال.

أقول زرت هذه الجزيرة فى بعثة علمية من جامعة صنعاء فى عام 1995، حيث أقلعت بنا طائرة أنتينوف عسكرية صغيرة من مطار صنعاء إلى مطار الريان فى حضرموت، واستغرقت ساعتين إلا الربع، ثم من مطار الريان إلى مطار حديبو، عاصمة سقطرى، وهو مطار صغير خالٍ من الممرات والطرق المُعبَّدة، واستمتعت برحلة مثيرة فوق جبال المنطقة الوسطى والشرقية فى اليمن بقممها الشاهقة تخترقها وديان عميقة ضيقة، وقد تناثرت هنا وهناك تجمعات سكنية صغيرة يسمونها العُزل (بضم العين وفتح الزاى)، تحرسها حصون الجبال الطبيعية المنيعة.

وكنت- كلما حلقت فى سماء اليمن فوق جبالها العالية ذات القمم الوعرة، أو تجولت فى رحابها مع طلابى فى رحلاتنا الجيولوجية- أتعجب من تلك البيوت أو الحصون القائمة فوق قمم الجبال، وكأنها جزء منها، فى أماكن يصعب على الإنسان والحيوان الوصول إليها- وبناء الحصون والقلاع عادة وأسلوب يمنى قديم، ويشاركهم فى ذلك ساكنو الجبال مثل أهل أفغانستان وغيرها، وتُستخدم هذه الحصون فى الحرب والسلم، وهى تناسب بيئة الجبال الوعرة على وجه الخصوص.

وفى أثناء تجوالى فى اليمن وجبالها، كنت أتذكر شيئين، أحدهما محنة الجيش المصرى الذى جاء لنصرة ثورة اليمن فى سنة 1962، تلك الثورة التى نقلت اليمن وأهله من كهوف العصور الغابرة لتضعه على مشارف العصر الحديث، وحدث ما حدث للجيش المصرى، ولم يبقَ من ذلك كله فى الوقت الحاضر غير بناء يثير الشفقة ويدعو إلى الرثاء، هو «النصب التذكارى للشهداء المصريين فى ثورة اليمن»، (وضعت صورته فى كتابى آنف الذكر رحلة فى أرض سبأ)، وقد أُقيم هذا النصب البائس فى حضن وتحت أقدام جبل عَصِر (بفتح العين وكسر الصاد) فى غرب صنعاء، وهى منطقة نائية لا يعرفها أحد، وكأنهم أرادوا أن يستروه عن أعين الناس.

أما الشىء الآخر الذى كنت أتذكره كلما حلقت فى سماء اليمن فوق جبالها أو حصونها الطبيعية الوعرة، فهو خصوصية حضارة اليمن القديمة، إذ لم تعرف اليمن طوال تاريخها كله تقريبًا حكومة مركزية قوية تسيطر على كل ربوع اليمن كله، بل كانت هناك ممالك (أو قبائل كبيرة) مستقلة معزولة كل واحدة عن الأخرى، تحرسها الجبال الوعرة والحصون الطبيعية، التى يستحيل اقتحامها فى أغلب الأحيان، وينحصر نفوذ كل مملكة فى وادٍ، وقد تتفوق مملكة على أخرى أو أخريات بعض الوقت، وتشكل هذه السمة جانبًا كبيرًا فى مأساة الحرب العبثية الدائرة الآن فى اليمن.

ويذكر التاريخ أن الإمبراطورية الرومانية، إبان مجدها، أرادت السيطرة على اليمن وكنوزها الأسطورية من تجارتها فى البخور واللبان والتوابل، (والتى تقابل الآن تجارة أو اقتصاد العطور والبترول معًا فى أيامنا هذه)، وأرسلت حملة عسكرية عُرفت باسم حملة «أليوم جالوس»، فى حوالى عام 24 قبل الميلاد، وفشلت هذه الحملة، إذ لم يكن الرومان على دراية بطبيعة جبال اليمن وحصونها الوعرة، الأمر الذى يجعل مهمة الجيوش النظامية شيئًا مستحيلًا. ومن المؤكد أن الرئيس الراحل جمال عبدالناصر لم يكن يعلم طبيعة البيئة اليمنية بجبالها الشاهقة الوعرة، وحتى أنا- كجيولوجى قضيت نحو عشر سنوات فى دراسة جبال الصحراء الشرقية بمصر، وهى أكثر الصحارى المصرية وعورة- لم أكن أتصور مدى وعورة جبال اليمن إلا بعد أن عشت بعض الوقت فى اليمن، وتجولت فى صحاريها وجبالها الوعرة.

وبالنسبة لأفغانستان، وهى بلاد ذات طبوغرافية جبلية وعرة، فقد حاربت هذه الطبوغرافية الوعرة بكهوفها العميقة العملاقة مع أهل أفغانستان ضد الغزاة الذين حاولوا السيطرة عليها فى العصور الحديثة، بدءًا من الإنجليز فى القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، ثم الاتحاد السوفيتى السابق فى غزوه أفغانستان فى عام 1979، وأخيرًا الأمريكيين الذين غزوا هذه البلاد كرد فعل لاستضافة طالبان لتنظيم القاعدة الإرهابى وتوفير ملاذ آمن له. وفى هذه الحالات الثلاث انهزمت الجيوش النظامية الإنجليزية والسوفيتية والأمريكية رغم عدتها وعتادها أمام طبوغرافية أفغانستان الوعرة، التى حاربت بالفعل مع أهل أفغانستان بعدتهم وعتادهم التى لا تقارن من حيث النوع والكم بجيوش الإنجليز والسوفييت والأمريكان النظامية.

وعلى الجانب الآخر، كما عملت الطبوغرافية الأفغانية الوعرة على دحر الغزاة، فإنها تعمل نفس الشىء ضد محاولة أى قومية أو قبيلة أو تنظيم دينى أو عسكرى أو غيره من أهل أفغانستان بسط نفوذه والسيطرة على كافة أرجاء أفغانستان، الأمر الذى يؤدى بالضرورة إلى استمرار القتال والصراع الداخلى فى هذه البلاد، وشىء مثل هذا حدث ويحدث فى إثيوبيا لنفس السبب.