آخر تحديث :الجمعة-11 أكتوبر 2024-09:54م

تحليلات سياسية


الاقتصاد السياسي في اليمن : عالم موغلٌ بالفساد والمحسوبية يبدد ثروات البلاد

الاقتصاد السياسي في اليمن : عالم موغلٌ بالفساد والمحسوبية يبدد ثروات البلاد

الخميس - 27 سبتمبر 2018 - 08:20 م بتوقيت عدن

- تحديث نت - القسم السياسي - أنيس الشرفي .


يعد النظام والقانون هو المحك الحقيقي الذي تقوم عليه هياكل الدول، وتدار الأنظمة السياسية والسياسات الاقتصادية والمالية، وينظم العلاقات والمعاملات سواءً على مستوى قوى المجتمع الداخلية أو بعلاقاتها مع الجهات الخارجية ذات الصلة.

فمتى ما تجرد النظام من معناه وسطت أهداف السياسيون ومآربهم السياسية الخاصة أسمى من حياة المواطنين، فذلك يعني تغوغل عصابات إجرامية على الحكم، أصبحت تمارس التجويع والقتل والتعذيب لا يهمها غير مكاسبها المادية والسياسية لو يتسبب ذلك بفناء مدن بأكملها، طالما أتيح لهم سبيل التكسب الشخصي، وإذلال المعارضين لسياساتهم، من خلال صناعة الأزمات، وتصدير الكوارث.

ولعل أشد تلك أزمات المصطنعة وقعاً، هي أزمات انهيار أسعار صرف العملة وارتفاع أسعار المواد الغذائية، فضلاً عن التهديدات الأمنية، وأزمات الكهرباء والمشتقات النفطية التي جاءت من صنيع القوى السياسية النافذة المتمرسة على السلب والنهب بهدف استنزاف الوطن والمواطن وإشغاله بالأزمات المتتالية عن المطالبة بحقوقه الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.




تشكل المحسوبيات وإقطاعيات النفوذ العائلي:

يشكل الفساد والمحسوبية والتزاوج اللا شرعي بين السلطة ورأس المال، المنبع الأساسي الذي ارتكز عليه نفوذ إقطاعيات عائلية، تكونت عبر نهب المال العام من قبل مسؤولين وشخصيات نافذة في الحكم استغلت مراكزها في السلطة لنهب موارد الدولة واستنزاف الخزينة العامة لتنمية أرصدتهم البنكية وتقوية نفوذهم الشخصي، على حساب معاناة المواطن الذي يتجرع كلفة فاتورة ترف المتنفذين، رغم حرمانه من الحصول على أقل حقوق المواطنة التي تنص عليها قوانين البلد.

وقد ساهم ذلك الأمر في تكريس التمايز الطبقي واتساع فجوة التباين الاجتماعي بين طبقتين، تتصف أولاهما بالثراء الفاحش، وتنحصر بين قلة قليلة معظمهم من كبار قيادات الدولة وبعض البيوت التجارية الذين دخلوا بشراكات تجارية واسعة مع المسؤولين، فيما يرتع غالبية أبناء شعبهم في فقرٍ مدقعٍ، ويفتقرون إلى أبسط متطلبات حياة من الغذاء والدواء والمياه العذبة الصالحة للشرب.

ومع تنامي معدلات المجاعة وانعدام الامن الغذائي، وتفشي الأوبئة والأمراض المعدية، فقد يسر ذلك الوضع السبيل أمام العصابات التخريبية والجماعات المتطرفة لاستغلال حاجة الفقراء والمعدمين، وتجنيدهم لممارسة أعمال الحرابة والتقطع والنهب وتزايد حوادث السرقات والنهب بقوة السلاح، فضلاً عن تنفيذ جرائم القتل وعمليات إرهابية والإسهام في تقويض الأمن والسلم الإقليمي والدولي.
الاقتصاد السياسي في اليمن:
أشار تقرير تشاتام هاوس التابع للمعهد الملكي البريطاني عام 2013م حول اليمن إلى : "إن الاقتصاد السياسي لليمن مبني حول نخبة ضيقة من الجيش والقبائل والطبقة السياسية والقطاع الخاص. فقد تشكل نظام المحسوبية في حقبة صالح بالاعتماد على عائدات تصدير النفط والوصول إلى اقتصاد تحرر حديثاً. وتسيطر نحو عشر أسر ومجموعات تجارية ذات صلة وثيقة بصالح على أكثر من 80 بالمائة من الواردات والتصنيع والتجهيز والخدمات المصرفية والاتصالات ونقل البضائع".

وهذا يؤكد بأن الاقتصاد السياسي في اليمن ينحصر على عائلات وبيوت تجارية محدودة، تستولي على السلطة والثروة وتتحكم في الاقتصاد الوطني. مما يسر لها تأسيس شبكات محسوبية واسعة النطاق مع القوى المحلية والشركات العالمية متعددة الجنسيات، والارتباط مع مختلف الأطراف بعلاقات مصالح بالغة التعقيد، سعياً منها لاكتساب نفوذ واسع طويل الأمد لا يتأثر بتقلبات الأوضاع.

وبالتالي يصعب تقليص نفوذ تلك القوى، أو تفكيك شبكاتهم المعقدة، بمجرد تغيير سياسات النظام السياسي والاقتصادي أو إشراك قوى سياسية أخرى في الحكم، بل تتطلب إجراء تعديلات جذرية في بنية الدولة ومؤسساتها وهياكل الحكم ونظامها بشكلٍ عام، وتنفيذ تغييرات في أسس السلطة والنفوذ الرسمية وغير الرسمية التي يتشكل منها النظام القائم انطلاقاً من النظر في العوامل الأساسية التي تتشكل بموجبها الأسباب الجوهرية المنشئة لأزمات البلاد، وتجزئة هياكل الدولة ومعالجة مشاكل كل جزء منها على حدة، حتى تتيسر عملية الإصلاح نظراً لكثرة المشكلات وتناقضات الحلول من مشكلة إلى أخرى، وهو ما يعيق إمكانية حلحلة كافة قضايا البلد في آن واحد.

فضلاً عن حاجتها لإصلاحات عميقة تستهدف السياسة الاقتصادية وهياكل منظومة الاقتصاد السياسي بشكلٍ مباشر للوصول إلى معالجات فعالة تسهم بتفكيك شبكات المصالح الشخصية التي تستحوذ عليها قوى النفوذ الفاسدة، وتسخرها لخدمة ذاتها على حساب قوت الشعب. وهو الأمر الذي يصعب تحقيقه في ظل تجذر تلك القوى وسيطرتها الكاملة على الدولة عبر اتجاهها لتأسيس نظام موازي خفي يتحكم في قرارات كافة مستويات النظام اليمني على جانبيه الرسمي وغير الرسمي.



احتكار السلطة والثروة:

إن أحداث المشهد السياسي اليمني وتجلياته مُثقلٌة بالثورات والحروب والصراعات المتعاقبة، والأزمات المتجددة، التي تغذيها أطماع النفوذ والتسلط لدى قوى النفوذ الزيدية(مؤتمر، إصلاح، حوثي)، على اختلاف مناهجها وتكويناتها المغلفة بطابع الديمقراطية، وإدعاء التعدد الحزبي لتحقيق أجندات سياسية واقتصادية تضمن لهم التفرد في السلطة والثروة.

إذ عمد أساطين الزيدية في سبيل التفرد بالقرار واستئثار تقاسم السلطة والثروة فيما بينهم، لإضعاف كافة القوى المحلية، عبر شراء الولاءات ونشر الفتن، وتأجيج العداء بين قوى المجتمع اليمني شمالاً وجنوباً، لإدخالهم بصراعات داخلية، ونزاعات قبلية، ومناطقية، ومذهبية. تطبيقاً لسياسة (فرق تسد)؛ مما يسر لهم الاستيلاء على الحكم والثروة لقرون طويلة في اليمن الشمالي، وأضيف إليها بعد الوحدة أراضي اليمن الجنوبي ذات المساحة الشاسعة والثروات الزاخرة، والتعداد السكاني الضئيل.

لقد أتثبتت تجارب الإصلاح الحكومي الماضية على مدى 28عاماً فشل الدولة عن إنتاج حلول مجدية للأزمة اليمنية، إذ عجزت عن إحداث أي تغيير جوهري في هياكل السلطة أو معالجة حالة الانهيار الاقتصادي الآخذ في الهبوط والانحدار المستمر ليخلف تصدعات عميقة في بنية هياكل الدولة والنسيج الاجتماعي، ويولد مجاعة وفقرٍ مستفحل وصف بأنه الأكبر عالمياً خلال القرن الراهن.

إذ تلجأ تلك القوى كلما استشعرت وقوعها في مأزقٍ، لإشعال الحرائق وصناعة الأزمات، بهدف خلط الأوراق وصناعة حدث تشغل به الرأي العام إنفاذاً لعملية الهروب إلى الأمام، كما تفعل الأمر ذاته حال تعرضها لضغط دولي يطالبها بتنفيذ إصلاحات جوهرية على المسار السياسي أو الاقتصادي بشكل ينهي حالة العبث القائم في مؤسسات الدولة واقتصادها الوطني.

ويأتي ذلك لاحتكار السلطة والثروة بفئة من الفاسدين والمتنفذين الذين وجدوا من الأزمات ملاذاً آمناً لتهيئة مناخ التكسب والفساد دون أن تطالهم يد العدالة، مما جعلهم يحرصون على استدامة الأزمات لتحقيق أكبر محصلة من المكاسب الشخصية، غير عابئين بتبعات ذلك وتداعياته على الشعب.

وهو الأمر الذي يستدعي العودة إلى جذور الصراع وأسبابه، المتمثلة بالخطأ التاريخي المتمثل بفشل مشروع الوحدة، وما أعقبها من احتلال عسكري، اختلت بموجبه جميع الهياكل المؤسسية وفقدت الدولة صفتها الأساسية كجهة تخدم مصالح الشعب، وتحقق العدل والمساواة بين جميع مواطنيها، بعد أن أصبحت مرهونة لخدمة شخصيات وقوى نافذة، قيدت السلطة والاستثمار وجعلتهما حكراً عليها.


شرعنة سياسات الفساد:

أفرزت عملية إدارة الصراع وتداخلاتها المتشابكة، بين عدة قوى محلية وإقليمية ودولية حالة من الإرباك، ويزيد مستوى التعقيد والإرباك، ذلك الوضع الذي تتشكل منه تلك القوى، التي أثبتت بأنه لا يهمها معاناة الشعب أو مدى تضرر مصالحه بقدر اهتمامها بحماية مصالحها الذاتية غير عابئة بأحد.

وتتمثل أبرز السياسات المنتهجة من قبل قوى النفوذ لإدارة الاقتصاد السياسي في اليمن بالآتي:

- سيطرة نخبة ضيقة من الجيش والقبائل والطبقة السياسية وشركائهم في القطاع الخاص على السلطة والثروة، تسخير المال العام لتشكيل إقطاعيات نفوذ عائلي ذات ثراء فاحشٍ.

- رهن سياسات الدولة وقراراتها وتشريعاتها وعلاقاتها واتفاقياتها مع الآخرين بمصالح المتنفذين.

- إضعاف المؤسسات الرسمية ونشر الفساد المالي والإداري في كافة هياكل المؤسسات العامة.

- تفشي نظام المحسوبية وتقوية شبكات التوريث والمحاباة، ووضع مؤسسات الدولة قيد السيطرة المطلقة لأسر وعائلات بذاتها يتوارثونها جيلاً بعد آخر.

- مجابهة دعوات الإصلاح السياسي والاقتصادي ومحاربة كل من يدعو إليها، والعمل على إعاقة أية توجهات يراد منها إنتاج حلولٌ مجدية لانتشال البلد من وضعها الحالي.

- يعد الجيش مرتعاً أساسياً لنهب الأموال العامة في اليمن، إذ يقوم كبار مسؤوليي الدولة وقيادات الجيش بنهب المليارات شهرياً، عن طريق الوظائف الوهمية والازدواج الوظيفي وبيع وتهريب السلاح والوقود والبشر، (فوفقاً للمؤشر الحكومي لمكافحة الفساد في قطاع الدفاع لعام 2013 التابع لمنظمة الشفافية الدولية، صنف اليمن ضمن أكثر المؤسسات الدفاعية فساداً في العالم).

- تسيد قوى النفوذ الفاسدة، وسيطرتها على عائدات تصدير النفط، وحرمان خزينة الدولة منها.

- احتكار نحو عشر أسر ومجموعات تجارية ذات صلة وثيقة بالنظام على أكثر من 80 % من الواردات والتصنيع والتجهيز والخدمات المصرفية والاتصالات ونقل البضائع.

- محاربة المستثمرين المحليين والأجانب، وربط الموافقة على منحهم رخص الاستثمار بدخول كبار مسئولي الدولة شركاء في الربح دون المساهمة بشيء من رأس المال.(شريك حماية).

- التضييق على المستثمرين المحليين المنافسين من خلال فرض إتاوات ورسوم عالية عليهم، أو تعريضهم لمضايقات أمنية أو استخدام نفوذ السلطة لسلب ممتلكاتهم بالقوة، وتكبيدهم خسائر مالية باهظة تدفعهم للهروب بأموالهم إلى دولٍ أخرى توفر مناخٍ ملائم للاستثمار.

- منح امتيازات خاصة لشركات المتنفذين وحرمان تجار السوق منها، من قبيل(الإعفاء الجمركي والضريبي – صرف أراضي مجانية – احتكار المشاريع المربحة- قروض ميسرة – منحهم درجات تصنيف عالية – استخدام نفوذ الدولة لربطهم بشركات دولية رائدة – وحصر تراخيص التوكيلات للمنتجات المربحة على فئة المتنفذين).

- تحكم شخصيات نافذة بمستوى العرض والطلب على العملات الأجنبية والمشتقات النفطية في السوق، لغرض التلاعب بالأسعار وإفقار المواطنين وضرب المنافسين.


مجاعة تدق ناقوس الخطر:

تفيد تقارير الأمم المتحدة بشأن الإحتياجات الإنسانية في اليمن لعام 2018م، "إن البلد تواجه أزمة إنسانیة واسعة: إذ أن نحو 22.2 ملیون يمني بحاجة إلى نوع من المساعدة الإنسانیة أو الحمایة، بما في ذلك 11.3 ملیون شخص في حاجة ماسة - أي بزیادة أكثر من ملیون شخص في حاجة ماسة منذ یونیو 2017. وقد أدى تصاعد النزاع منذ مارس 2015 إلى تفاقم أزمة الحمایة التي يواجه الملایین فیھا مخاطر على سلامتهم وحقوقھم الأساسیة".

يأتي ذلك في بلدٍ يعيش حالة مأساوية ويواجه حالة انهيارٍ حادٍ على كافة المستويات، مما تسبب بإلحاق ضررٍ بجميع المواطنين، عدا المسؤولين والوزراء وقيادات النظام والمعارضة من كلا طرفي النزاع، إذ يعيشون حالة ترفٍ وبذخٍ ويمارسون الفساد غير عابئون بحال المواطن.

ويعيش سكان مدينة عدن عاصمة البلاد وكافة المحافظات المحررة، وضع مأساوي بسبب استحواذ لوبي الفساد على الحكومة، إذ يعاني مواطنو المحافظات المحررة من تبعات ذلك الفساد المستشري في أروقة المؤسسات العامة، ومثال ذلك. أزمات الخدمات مثل، (إنقطاعات الكهرباء المتكررة، إنعدام البترول والديزل وغاز الطبخ، تكديس مخلفات القمامة، انسداد مجاري المدن وتحول الشوارع لمستنقعات، وتفشي الأوبئة وانتشار الفيروسات والأمراض القاتلة مثل الكوليرا والملاريا والأوبئة المعدية المؤدية إلى الموت، ... الخ...).

فضلاً عن تداعيات الانهيار الاقتصادي والانعكاسات السلبية الناتجة عن انهيار أسعار صرف الريال اليمني وارتفاع أسعار المواد الأساسية، التي أصبح من الصعب على المواطن احتمالها.

وكانت المملكة العربية السعودية قد أودعت ملياري دولار أمريكي كاحتياطي نقدي في البنك المركزي اليمني لإيقاف الانهيار الكبير الذي واجهته العملة اليمنية مؤخراً، بيد أن سياسات الحكومة المالية لا تبشر بإصلاحات جوهرية في الجانب المالي، حيث تنتظر الحكومة استلام أكثر من أربعمائة مليار ريال يمني من الأموال المطبوعة حديثاً في الخارج.

يشار إلى أن الحكومة كانت قد طبعت ما يقارب تريليون ريال يمني خلال السنتين الأخيرة دون أن توفر، دون أن توفر غطاء من الأموال الأجنبية التي تضمن لها ثبات أسعار صرف الريال.

وإزاء كل ذلك لم تهتم الحكومة لإيجاد معالجات لأي من الازمات التي تواجهها البلاد، إذ تتوقف الإصلاحات والأعمال المنفذة في جوانب دعم الخدمات على ما يقدمه الهلال الأحمر الإماراتي ومؤسسة الإغاثة الكويتية ومركز الملك سلمان، بالإضافة إلى الدعم المقدم من قبل الحكومات الغربية ومنظمات الأمم المحتدة، ورجال الأعمال المحليين والمنظمات والجهات الداعمة المحلية والخارجية دون تدخل الحكومة الشرعية.

فيما تتعامل الحكومة مع كل تلك الأزمات بحالة من اللامبالاة، وإن قدمت شيء فغالباً ما تسبقه بهالة من التضخيم والترويج الإعلامي للمسؤول ذو الصلة، وكأن ذلك المسؤول يجود بالأمر من حر ماله، أو أن ما يقدمه للمواطنين مجرد مكرمات يتكرم به المسؤول أو الدولة عليهم، لا حق من حقوق المواطن يتوجب مسائلة المسؤولين حال الإخلال بها.