ادب وشعر

الإثنين - 19 نوفمبر 2018 - الساعة 02:09 م بتوقيت اليمن ،،،

تحديث/ أمير الشعراء عبد العزيز الزراعي:



يقول الشاعر اليمني أحمد الزراعي في نص كتبه 1992:

رأيتُ بيتي
في غبار المدى
حكايةً
مكتوبةً
من دمي !
كانت جبالي
تنحني
ركعا
وكان
صوتي
ميتاً
في
فمي!
رأيتُ قلبي
باحثا
عن هوى
يدي
تهشُّ الموت
عن
مبسمي
________

أقف على جزء من جماليات النص وهي كثيرة جدا كما أتصورها:
فالنص في اعتقادي من النصوص التي تدهش وتقول أشياء يدركها الشعور ولا يستطيع إحاطتها الكلام. تلك النصوص التي ينثال جمالها من جهات شتى يصعب عليك تحديدها. ويتصل جمالها بالروح واللاوعي وأماكن أعمق في الوجدان، أكثر من العقل والمنطق.
ومع ذلك حاولت التقاط بعض مواطن الجمال حسب ذوقي وقدراتي.
يتخذ النص الفعل (رأيت) عتبة ومستهلا له، فيظن القارئ أن الحديث عن رؤية بصرية فإذا به يتفاجأ بهذا الانقلاب الشعري الواسع والكبير (في غبار المدى) فيتحول المشهد إلى رؤية اسطورية حلمية كثيرة الظلال والفنتازيا.. مشهد كوني لا يعبر عن الشاعر فحسب ولكن عن الإنسان في مأزق وجوده وبحثه عن بيت في حطام هذه الأرض.. إنه مشهد ينقلنا لبداية الخلق.. للطوفان.. لحروب طروادة.. لعراك الإنسان مع عفاريت الكون، لحروبه البربرية ..ولحروبه العالمية.. يحملك لأكثر من محطة وجودية خاضها الإنسان ضد الطبيعة حينا وضد نفسه أحيانا كثيرة بحثا عن بيته عن وطنه، وفي النهلية يكتشف أن قصة الحضارة وبالأصح قصة هذا البيت كانت حكاية كتبت بدم الإنسان .. وبصراعه.. بتدميره للطبيعة وللحياة.. وتضيق الدائرة فتحيلك لزمن الشاعر ولوطنه ..لبيته لقريته في مطلع التسعينات حيث كانت تنهار أحلام البيت العربي بعد غزو الكويت وحرب الخليج، وملامح فشل الوحدة اليمنية وبدايات الصراع بين شمال اليمن وجنوبه، كل أحلام التسعينيين الشباب التقدمية والقومية تتحول غبارا في طول هذا المدى وعرضه.
إن النص الكبير والأصيل هو الذي تنقلك جمله من المتناهي في الصغر إلى الآفاق الكبيرة فتتجاذبك أمكنة متباعدة وأزمنة متباعدة وتريك خيطا جامعا بين آدم الأول مرورا بكل النماذج البشرية وصولا للشاعر في هذا العصر هذا الخيط الجامع هو كدح الإنسان وصراعه من أجل وجوده بكل طموحاته وانكسارته وخيباته. الشعر العظيم هو الذي يخلق في روحك مسرحا بانوراميا يتداخل فيها التاريخي بالمعاصر والواقعي بالأسطوري. فكأنك شاهدت ملحمة وكأنك عشت أزمنة عدة وصافحت أبطالها.

كانت جبالي تنحني ركعا
وكان صوتي ميتا في فمي

هذا المشهد الثاني يصل فيه التوهج الشعري ذروته، حيث جاء بدون أداة عطف بشكل متواتر زمنيا وإيقاعيا، إنها مشهد من مشاهد البعث أو من مشاهد القيامة حيث تخر الجبال تنهار حسرة أو إكبارا لما حل ببيت الشاعر، أو أنها تتحطم أمام جبروت الإنسان وحروبه، الجبال التي لم تكن إلا سندا لبني الإنسان وسكنا ينحتون منها بيوتا.. ونلاحظ هنا كيف تحملنا الصورة إلى أكثر من نص مخزون في وعينا الجمعي .. الجبال التي رفضت الأمانة وحملها الإنسان، والجبال التي نحتها البشر للسكنى، والجبال التي حفظت الأرض أن تميد، والجبال التي استوت عليها سفينة الطوفان.. ثم أخيرا الجبال التي تماهى فيها الإنسان اليمني وصادقها وسكن قممها .. وبنى عليها ثكنات حروبه ضد أعدائه، وهي الجبال التي طالما رددت صدى مهاجله ورصاصات أعراسه، وأغانيه، ها هي تنحني ركعا في وجدان الشاعر لم تعد قادرة على رد صدى صوته، لهذا كان صوته ميتا في فمه. فقدت الطبيعة التفاعل معه وفقد هو صوته.

ولنقف على جمال التركيب..
فقد جاءت في البيت الأول الدهشة في التعبير عن تلاشي البيت وعدميته في نسبته إلى مكان لا يصلح أن يكون مكانا وهو (غبار المدى) ولم يكتف عند هذا الحد من تصوير العدمية بل أضاف أنها (حكاية مكتوبة) فدلنا هذا التعبير على طول قصة هذا البيت فأوحت لنا بحكاية الخلق وقصة سفره الطويل منذ آدم لليوم، ثم يقفل البيت بمعنى جديد مدهش وهو ( مكتوبة من دمي) فتعبيره من دمي أضاف لنا تضحياته ..شهداءه .. وقتلاه.. ومعاركه، وكل ما يمكن تخيله من صراع البشرية تجاه بعضها، وتجاه الكون تحت غطاء حلم أوطانها والدفاع عنها. ففي الصورة تجد المعنى ونقيضه؛ الفخر بكفاح الإنسان وفي الآن ذاته هجاء هذا الكفاح وبيان عدميته أو عبثيته، إنه الصراع الدائم بين الخير والشر.
وتأمل معي أناقة التعبير بالنكرة(حكاية مكتوبة) والتعظيم أو الإيحاء بطول هذه القصة، إضافة لما يحدثه التنوين من إيقاع جميل ونغم (حكايتن مكتوبتن) وكذا تناسقها وهي حرف غنة مع شيوع حروف الميم والباء وهي شفوية.
ثم جاء مستهل البيت الثاني بالفعل(كانت) بدون أداة عطف فأعطتنا تقنية الفلاشات المتتالية البانورامية، وأتاحت له جملة (كان) أن يستخدم المضارع المستمر في الماضي لينقلنا بذلك لمشهدية الحدث وكأننا نراه وهو ما يسمى (التخييل) لاحظ معي: كانت جبالي تنحني ركعا .. فالفعل تنحني يصور لنا تدرجها لحظة انحنائها وكأنها تنحني جبلا جبلا ، وكلمة (ركعا) هو جمع مبالغة وكثرة، ليست مثل جمع القلة (راكعات). فهي بجانب وظيفتها في سد الثغرة الإيقاعية (فاعلن) في بحر السريع، حققت غرضا دلاليا يقصده الشاعر فتوافقت غاية التوافق شكلا ومعنى.
ثم يختم بقوله:
وكان صوتي ميتا في فمي..
أي تصوير للفجيعة هذا?! أي تعبير يستطيع أن يعبر عن حالة الفجيعة والخرس كما فعل هذا التعبير..
أتدرون من أين جاءت دهشة هذا التعبير وومن أين نبتت أجنحته الساحرة?
إنها من الإيهام بأن الصوت شيء مادي مستقل عن الفم وقد تم إنجازه لكنه في حالة موت، إنه من التخييل بأن الصوت كائن له حالتان هي حياة وموت، في حين أن الصوت ليس له إلا حالة واحدة هي الحياة وغير ذلك العدم، فنطقه هو الحياة وعدم نطقه عدم وموت، فالتعبير بكلمة (كان صوتي) معناه أنه وجد من العدم ثم وصفه بأنه (كان/وجد) ثم مات هنا تكمن الدهشة.
أرأيتم كيف تفعل الاستعارات .. كيف تعيد تشكيل العالم وكيف تقول مالا يمكن قوله، فالصوت في لغتنا العادية لا يكون إلا منطوقا وعكس ذلك الصمت، لكن أن يكون منطوقا في الفم ولكنه ميت فهذه حالة لا يمكن إدراكها والتعبير عنها إلا شعرا، إنها تعبير عن إرادة القول والوعي به واحتياجه بشدة فكأنه أنجز، ولكن ثمة ألم جبار يجهضه في فمك فلا تستطيع لفظه للخارج إنه كحالة جنين ميت في الرحم وليس كذلك تماما بل أكثر وأعمق.
فكلمة (كان صوتي ميتا) شيأت الصوت بأسلوب استعاري غير ملحوظ ومررت لنا خيالا في شكل تعبير حقيقي وهي طريقة حجاجية خطيرة، وكذلك تعبير (في فمي) بالغت في جعل الصوت شيئا ماديا متحيزا في مكان هو الفم، فأعطتنا مشهدية أكسبت التعبير واقعية محسوسة. فجاءت القافية إذن ذات وظيفة جمالية ومعنوية وليست مجرد حشو.