ادب وشعر

الإثنين - 21 يناير 2019 - الساعة 05:09 م بتوقيت اليمن ،،،

تحديث/ متابعات:

عادة ما تكون الشخصيات الدرامية الأكثر إثارة للاهتمام، هي تلك التي تضع بين يدي متابعيها خيوطا تشعرهم بأنهم يقبضون على تفاصيل الشخصية ويعرفون خياراتها ومساراتها الدرامية، قبل أن تقلب الطاولة عليهم وتفاجئهم بما لا يتوقعونه، وذلك ما كان عليه بالضبط الفنان الراحل لؤي كيالي، فابن العاشرة الذي نجح في رسم بورتريه لجده حد التطابق، حاز معرضه الثاني في صالة الفن الحديث بدمشق عام 1962 اهتماما واسعا توج ببيع عدد كبير من لوحاته بثمن اعتبر الأعلى وقتها، إلا أن حياته سرعان ما أخذت منحى آخر خلافا لما توحي به البدايات؛ فقد ألقت الكآبة والإحباط ممن حوله ظلالهما الثقيلتين عليه، وعلى لوحاته التي بدت مثقلة بالحزن أيضا، ولا سيما تلك التي رسمها بالفحم وقدمها في معرضه "في سبيل القضية" أواخر أبريل/نيسان من عام 1967.



في هذا الوقت كانت بوادر أزمة نفسية قد بدأت تظهر على لؤي كيالي، ويبدو أن الموقف التهجمي الذي تعرض له معرضه "في سبيل القضية" من فنانين ونقاد قد أسهم في تفاقم هذه الأزمة، وهو ما دفعه إلى تمزيق لوحات هذا المعرض، ليعتكف بعدها في بيته بدمشق، ويكف عن الرسم والتدريس، قبل أن يغادر إلى مسقط رأسه حلب عام 1968.

هل فقد لؤي كيالي وقتها ثقته بالفن وبقدراته الفنية ليعتزل الرسم والتدريس؟

في الغالب لم يفقد لؤي ثقته بالفن، ولكنه بالتأكيد أصابه الخذلان من أهله، وهذا ما يفسر عزلته واكتئابه الشديد إثر حادثة المعرض وصولا إلى تقاعده من التدريس عام 1971 بناء على طلبه، وعودته بعد سنوات بقوة ليقيم 5 معارض شخصية، بين بيروت ودمشق ومونتريال، وفق ما يحصي المتابعون، كان آخرها عام 1978 في صالة الشعب بدمشق.



إلا أن كل تلك السنوات لم تكن كفيلة بشفائه من جرح الخذلان؛ فما أن تغادره الكآبة وتتحسن نفسيته، حتى يحدث ما يدفعه إلى دائرة الاكتئاب مجددا؛ فحين تحسنت صحته النفسية عام 1969 عاد للتدريس في كلية الفنون الجميلة بدمشق، ولكن صحته سرعان ما انتكست بعد أيام من رحيل والده مطلع عام 1970.

لطالما كان الحزن جزءا من الطباع الشخصية للفنان لؤي كيالي، نتيجة لحساسيته العالية التي جعلته هشا وسط حياة فيها من القسوة والكره والعنف الكثير، وربما لهذا السبب لم تفارقه نوبات الاكتئاب رغم نجاحه المهني في كثير من سنوات حياته.



حساسية لؤي كيالي وروحه الهشة بدت العامل الأساسي في تشكيل ملامح تجربته الفنية، فـ"برز الحزن النبيل والصامت ليغلف أعماله بمسحة خاصة"، على حد تعبير الفنان التشكيلي والناقد السوري عصام درويش، مشيرا إلى أن لوحاته عبّرت عن "مجموعة إنسانية ضخمة تقع تحت ضغط أزمة اجتماعية كبرى تظهرهم كطبقة مسحوقة تعاني من ظلم الداخل والخارج معا"، وقال الناقد الفني أديب مخزوم إن "لوحاته بدت بمثابة مرآة عكست مختلف الحالات النفسية على وجوه الناس والأطفال البسطاء"، فيما رأى حبيب الراعي أن لوحاته "تقوم على جمالية الحزن، والسمة الأساسية فيها هي تلك المسحة الرومانسية من الحزن الغامض والهادئ الذي يسري في عروقها، خطا ولونا، مساحة وتعبيرا".

تلك الرؤية الفنية التي بدت شديدة الالتصاق بالناس البسطاء، كانت سر عبقرية لؤي كيالي وخلود إرثه الفني رغم حياته القصيرة، لقد عرف الرجل معنى الحزن وكيف يلتقطه في العالم من حوله ويجسده في لوحاته عالما من الجمال. هل كان الجنون الذي اتهم به زورا، هو عدم التجمل الذي أصر عليه في التعبير عن أحزانه؟!



هل كانت حساسيته هي الجنون كما رآه البعض؟! أم أنه رأى فيه، ما رأى فيه ديستوفيسكي حين قال: "فلنحزن من أجل سعادتنا المقبلة"؟!

لعل في احتفال "جوجل" بميلاد لؤي كيالي ما يؤكد أن الجنون هو عدم إدراكنا سوى متأخرين قيمة لؤي كيالي الإنسانية قبل الفنية، وربما يكون تقدير محرك البحث العالمي لموهبة الرجل، احتفاء بالجنون أو دفاعا عنه.



ولد لؤي كيالي في حلب يوم 21 يناير/كانون الثاني 1934، بدأ الرسم في سن العاشرة وعرضت أولى لوحاته عام 1952، ورغم التحاقه بكلية الحقوق؛ فإنه سرعان ما تركها ليوفد عام 1956 لدراسة الرسم في أكاديمية الفنون الجميلة في روما؛ حيث أكد موهبته من خلال مشاركته في العديد من المعارض والمسابقات التي حاز عليها مجموعة من الجوائز.



وكما كانت حياته دراما مذهلة، كان مماته لا يقل إثارة وغموضا؛ فقضى في 26 يناير/كانون الثاني من عام 1978 في مشفى بالعاصمة السورية دمشق، بعد 3 أشهر من تعرضه لحادثة احتراق في سريره بعقب سيجارته، قال البعض إنها لم تكن حادثة وإنما واقعة انتحار مقصودة.